أميرة الصغيرة والشاطر حسن

تيما رضا
الخميس   2024/08/01
وجوه مزينة بابتسامات بريئة. نظرات منبهرة بمشهد ما. ثيابٌ ملونة، وفرحةٌ ما، خلّدتها الكاميرا في لحظة. لصُور الأطفال حكايات لا يمل ذووهم من سردها، رغم بساطتها في كثير من الأوقات. في تلك الصور، مفهوم آخر للعلاقات الأبوية، لا يمكن لأحد أن يفهم ما الذي تعنيه صورة طفل، لوالدته أو والده. صور الأطفال تنطق رغم سكونها، تتكلم بلغة تفهمها الأم ويجاريها الأب، وعند التقاطها يكون الهدف منها تكريس هذه اللحظة أو تلك. لا يخطر في بال هؤلاء أن هذه الصورة قد تمخر عالم وسائل التواصل الاجتماعي في لحظات، فتخطف أنظار المجتمع الإلكتروني بكامله.

خلال دقائق معدودة، انتشرت صورة الشقيقَين أميرة فضل الله(6 سنوات) وحسن فضل الله(10 سنوات)، مترافقة بدعوة للإبلاغ عن مكانهما في حال العثور عليهما. وما هي إلا نصف ساعة، حتى أُعلن العثور عليهما تحت الأنقاض. قال البعض إنهما كانا مُتعانقَين تحت ركام المبنى المستهدف بالضربة الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت.

أميرة وحسن انضما إلى أطفال مجدل شمس، وأطفال غزة، وضحايا انفجار بيروت، وقبلهم ضحايا مجزرتي قانا والمنصوري، في مجموعة من الصور التي لا تليق بأجسادهم الصغيرة. الغبار والدماء والأشلاء لا تليق بصور الكبار، فكيف بالأطفال الذين قررت آلة الحرب أن تتسمر عيونهم على هول ما رأوه في الثواني الأخيرة، قبل أن يلفظوا النفَس الأخير من سنوات عمرهم القصير؟

أميرة وحسن التحقا بثلة من أطفال هذا الشرق الملعون بالتاريخ والجغرافيا. التحقا بآلاف الأطفال الذين سبقوهم في حروب متفرقة، أهلية وثنائية وصراعات لا تعرف استكانة. ضاقت هذه الحياة المجحفة بأحلام صغيرة اسمها أميرة، وطموحات شاطر اسمه حسن، فرسمت لهما نهاية يأبى العقل تصديقها.

ذنب الأميرة والشاطر حسن أنهما ولدا في البلد "الخطأ"، بلد يتأرجح بين حرب وأخرى، انفجار وآخر، ويعيش في الوقت الضائع بين الردّ، والردّ على الردّ. ذنبهما أنهما وُلدا في كنف الطائفة "الخطأ"، الطائفة التي باتت رهينة خطاب سياسي وحيد. ويستمر ذنبهما بأنهما يقطنان المنطقة "الخطأ"، منطقة محفوفة بالمخاطر طالما أنها حاضنة للبيئة نفسها التي تسيّر أمور الطائفة. ذنب حسن وأميرة أنهما كانا في المبنى "الخطأ"، بجوار قائد عسكري ربما التقياه مراراً ولم يعرفا -أو أهلهما- هويته الحقيقية، ولم يعنِ لأحد منهم أن على رأسه خمسة ملايين دولار مكافأة. الأرجح أن حسن أو أميرة ابتسما له، أو خافا منه، في يوم من الأيام، وربما طرقا باب منزله وهربا من باب الشقاوة الطفولية.

منذ بداية حرب تشرين الأول/أكتوبر، لجأ عشرات آلاف النازحين من الجنوب إلى الضاحية، أو إلى قرى أكثر أماناً في عمق الجنوب اللبناني. حملت العائلات أطفالها ونزحت من مكان إلى آخر. وفي التصعيد الأخير، مَن استطاع الهروب إلى مكان خارج الضاحية الجنوبية، لم يتأخر عن فعل ذلك. لكن ماذا عمّن لا خيار لهم؟

نحن شعب يعيش بالصدفة، ونحيا بين حدث وحادث. نقف، كأهل، عاجزين عن حماية أطفالنا الذين يُقتلون في منازلهم. حسن وأميرة ليسا فقط ولدَي أهلهما، ليسا في رأس اللائحة، وللأسف لن يكونا الأخيرَين. حسن وأميرة، صورة حية عن أطفالنا جميعاً، عن أطفال هذا الشرق الذي نسعى فيه لحماية صغارنا من مطحنة الحروب. كيف نقيهم شر القتال، وهدير الانفجارات والقصف وجدار الصوت؟ إلى أين نهاجر، نحن أبناء الجنسية "الخطأ"؟

حسن وأميرة اكتسبا لقب "شهيدَين"، إلا أن لقب "الشهادة" لا يليق بطفل. الشهادة الوحيدة التي تليق بالأطفال هي تلك المرتبطة بالعِلم والمستقبل الباهر، شهادة الحياة التي حُرم منها حسن وأميرة، فقط لأنهما كانا في المكان والزمان غير المناسبَين.