ضمادة الأذن والولاء السياسي العضوي... ترامب فكرة تُصدّر للعالم

وليد بركسية
الجمعة   2024/07/19
يذكر مشهد بعض الحاضرين في مؤتمر الحزب الجمهوري الأميركي وهم يضعون ضمادات كبيرة على آذانهم اليمنى، تضامناً مع مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية دونالد ترامب بعد محاولة اغتياله قبل أسبوع، بمشهد شهير في فيلم "Mean Girls" (فتيات لئيمات)، وفيه تتعرض ريجينا جورج (رايتشل ماكآدامز) لعملية اغتيال معنوي بقص ثيابها من قبل غريمتها كايدي هارن (ليندساي لوهان) من أجل تخفيف شعبيتها في المدرسة، لكن الأمر ينتهي بقص بقية الطالبات ثيابهن بالطريقة نفسها، حتى لو كن من ضحايا ريجينا جورج المتنمرة والقاسية.

والمشهدان على اختلافهما، بين العنف السياسي غير المقبول في حالة ترامب، والتنمر بطريقة كوميدية خيالية في المدارس الثانوية في حالة رجينيا جورج، يشيران بطريقة رمزية إلى أن التأثير في المحيط العام، من السياسة إلى الموضة، لا يتطلب شخصية نبيلة أو أفكاراً تقدمية، خصوصاً في عصر السوشال ميديا التي سمحت لأشخاص مثل ترامب بالبروز والقيادة والتأثير على المستوى العالمي، لدرجة كونه مثالاً يقتدي به قادة شعبويون، حاليون وسابقون، من الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان، إلى الرئيس البرازيلي السابق جائير بولسونارو، إلى زعماء أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي في ألمانيا وفرنسا.


وترامب كرائد مؤثر (Trendsetter) شكل أكبر انتصار للشعبويين وأنصار اليمين المتطرف على الكوكب، بنجاحه العام 2016 بالوصول إلى رئاسة أكبر ديموقراطية في العالم، وشحذ خيال أمثاله في دول أوروبية ولاتينية وآسيوية، ممن استلهموا أسلوبه في الخطاب واللغة والشكل والشعارات والقبعات الحمراء، على سبيل المثال، لصوغ سياسات مماثلة يتم فيها تغليف العنصرية بالخطاب القومي.

فخلال حملته الانتخابية للرئاسة الإندونيسية في تشرين الأول/أكتوبر 2018، استخدم زعيم المعارضة السابق برابوو سوبيانتو عبارة "اجعل إندونيسيا عظيمة مرة أخرى" مراراً وتكراراً، رغم أنه نفى تقليد ترامب. وخلال انتخابات البرلمان الأوروبي في السويد في أيار/مايو 2019، استخدم "حزب الديموقراطيين المسيحيين" شعار "اجعل الاتحاد الأوروبي معتدلاً مرة أخرى". واستخدم حزب "VOX" الإسباني اليميني المتطرف شعار "اجعل إسبانيا عظيمة مرة أخرى". وتكرر الأمر في الأرجنتين وسنغافورة ومنغوليا وأستراليا وغيرها، وصولاً إلى إسرائيل التي يرفع فيها اليمين المتطرف شعار ""اجعل إسرائيل عظيمة مرة أخرى".

وحتى العام 2015 كانت فكرة ترامب، كقطب من أقطاب العقارات في الولايات المتحدة وشخصية تلفزيونية برزت في عالم تلفزيون الواقع، نكتة سمجة في أفضل تقدير، لكنه نجح في حملته الانتخابية حينها ووصل إلى البيت الأبيض متحولاً إلى رمز من رموز السياسة العالمية، مستخدماً موقعه المفضل سابقاً "تويتر" (إكس حالياً) من أجل التواصل مع الناخبين وقاعدته الشعبية، التي باتت تكرر بعد محاولة اغتياله أوصافاً كانت رائجة أصلاً بشأنه مثل "المخلّص" في مواقع التواصل.

ويمكن تلمس أثر ترامب في سياسيين برزوا في المشهد من بعده، مستخدمين مواقع التواصل الاجتماعي، مثل نجم اليمين المتطرف الفرنسي حالياً جوردان بارديلا، الذي استطاع توسيع قاعدة حزب "التجمع الوطني" المتطرف بطريقة لم تستطع زعيمته مارين لوبن وحدها القيام به، كونه شخصية لم تبرز إلى العلن بقوة إلا مع الانتخابات الأوروبية والتشريعية هذا العام، وكان الغموض والجاذبية اللذان يتمتع بهما، على طريقة ترامب، طريقة للتواصل مع الشباب عبر مقاطع فيديو في "تيك توك" حيث يتابعه أكثر من مليون شخص، فيما تشرف شركة إعلامية متخصصة على ذلك الحساب، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".

هذا النموذج الذي جعله ترامب رائجاً بين السياسيين الأكثر شعبوية حول العالم، ليس عبثياً، لأنه يعتمد بشكل أساسي على تهميش وسائل الإعلام الكبرى، إلى حد إطلاق أوصاف نازية وسوفياتية على صحف وتلفزيونات مرموقة ونعتها بأنها "عدوة الشعب"، ما يمثل تقويضاً لواحدة من ركائز الديموقراطية الأساسية. وهي مشكلة كانت دائماً تواجه السياسيين الشعبويين والنازيين الجدد واليمين المتطرف الذي كانت صورته ترسم في الإعلام المستقل، كما هي عليه في أرض الواقع. لكن تأطير الإعلام على أنه العدو والكاذب، من دون دليل على تلك الاتهامات، والاعتماد على الخطاب المباشر القائم على مزيج من العواطف القومية والديماغوجيا، حول سياسيي اليمين المتطرف من ترامب إلى لوبان، إلى "مخلصين أرسلهم الرب" من أجل الفوز في حرب وجودية وعقائدية باتت حاضرة في السياسة الأميركية تحديداً، يتم فيها وسم المهاجرين وأصحاب البشرة الملونة والنساء والمثليين وغيرهم من فئات المجتمع، على أنهم خطر تحت مظلة "أيديولوجيا اليقظة" (Woke) التي تشير إلى الانتباه حيال الإساءات العنصرية والتمييز الممنهج الجندري والعرقي.


وترامب، بكسره المتتالي لكثير من القواعد الدبلوماسية والسياسية، وجعله لنفسه أضحوكة كلما سنحت له الفرصة عبر تصريحات غير مسبوقة، منذ العام 2015، استطاع جذب اهتمام كثير من الناخبين الذين لا يبالون كثيراً بالسياسة، لأنه يبدو مختلفاً وغريباً وجذاباً بكاريزما أقرب إلى نجوم البوب منها إلى السياسين الأكثر جدية، وهو ما بات نمطاً في دول أخرى أيضاً. والأمر كله يتعلق ببناء الصورة كفنٍّ يتقنه ترامب.

وهنا، يمتلك ترامب فكرة أساسية، شدد عليها طوال العقد الماضي داخل البيت الأبيض وخارجه، وهي رغبته في إثبات أنه سيكون أفضل رئيس في تاريخ الولايات المتحدة. وهو نوع من الهوس الشخصي، على ما يبدو، لإثبات أن خصومه والساخرين منه كانوا على خطأ عندما قللوا من جدارته السياسية، حتى لو كان الرئيس الوحيد في تاريخ البلاد الآتي من خلفية بزنس بحتة، من دون أي خبرة في المجالين السياسي أو العسكري.

على أن تحويل قضية مثل رئاسة دولة كبرى كالولايات المتحدة، إلى قصة شخصية، ليس عبثياً بدوره لأن الموضوع يتعلق برسم صورة إعلامية في خيال الناس، على الطريقة الهوليوودية القديمة التي أثبتت أفلامها الناجحة عاماً بعد عام، أن الناس يحبون مشاهدة قصة كفاح شخصية بسيطة تتخطى كافة العقبات نحو قمة المجد. وهو ما يعمل عليه ترامب بتركيزه على انعدام خبرته السياسة والعسكرية، وتحويل قصة أمواله الطائلة من نقطة سلبية إلى نقطة إيجابية كمثال على إدارته الجيدة للثروة وإنهائه الحاسم للصفقات.

وتأثير ترامب يتخطى السياسة نحو الثقافة الشعبية من أجل ملامسة الناخبين والتأثير فيهم، وتحديداً تصدير فكرة "الرجل القوي"، لدرجة أنه نشر لنفسه صورة مركبة العام 2019 بوضع رأسه فوق جسد الممثل العالمي مفتول العضلات سلفستر ستالون، فيما يقوم أنصاره بنشر صور دائمة له في مواقع التواصل على أنه أصغر سناً وأكثر قوة ورشاقة. ولهذا تحديداً أصدر ترامب العام 2022 مجموعة من بطاقات التداول الرقمية التي تصوره في مجموعة متنوعة من الأدوار المفرطة في ذكوريتها.

وليس من الغريب بالتالي أن يظهر المصارع هالك هوغان، في اليوم الأخير من المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، لتأييد ترامب، حيث قام بتمزيق قميصه أمام الحضور في مقطع فيديو انتشر بشكل واسع في مواقع التواصل، صرخ فيه قائلاً: "في نهاية المطاف مع زعيمنا ترامب، بطلي وذلك المصارع، سنوحد أميركا معاً مرة أخرى".


يتضافر ذلك مع خطاب تفوق العرق الأبيض والخطاب المسيحي شديد المحافظة وقيم العائلة التقليدية، من أجل تكوين خلطة مثالية للدعاية والتأثير، إذ حرص ترامب طوال نشاطه في السياسة على حمل الإنجيل الذي يصفه بأنه "كتابه المفضل". ويمكن تلمس ذلك بعد محاولة اغتياله التي عززت صورته بين أنصاره الذين يرونه بمثابة المسيح على الأرض بحسب وصف مجلة "تايم" الأميركية، فيما أرجع أنصار ترامب، بما في ذلك السياسيون، نجاته إلى "التدخل الإلهي"، وهي نقطة عززها ترامب شخصياً بقوله أن "الله وحده هو الذي منع حدوث ما لا يمكن تصوره".

وفيما كانت قبعات ترامب وأحذيته وأناجيله وقمصانه تباع وتنتشر بين الموالين له، باتت ضمادة الأذن آخر علامات الولاء له، لكنها علامة مختلفة قليلاً وتظهر كيف أن التبعية وإظهار الولاء السياسي لم يعد يأتي من طرف ترامب بشكل منتجات تجارية، بل يظهر من ضمن قاعدته الشعبية بشكل عضوي. ويمكن تلمس القبضات المفروعة وترداد شعار "قتال قتال قتال"، التي ظهر بها ترامب في لحظة محاولة اغتياله، فيما ينتظر أن ينتقل ذلك الشعار إلى دول أخرى في المستقبل القريب، بلا شك.