تمخّض النظام السوري... فوَلَد وزارة جديدة للإعلام!
لا يمكن سوى الضحك أمام القانون الجديد الخاص بإحداث وزارة جديدة للإعلام في سوريا تمارس الرقابة والتوجيه وضخ البروباغندا الرسمية، وكأن البلاد كانت تعيش طوال العقود السابقة في نعيم الحريات على كافة المستويات، تحديداً ما يخص حرية التعبير شبه المعدومة منذ سيطرة حزب البعث على السلطة العام 1963 قبل وصول عائلة الأسد للحكم العام 1970 بانقلاب عسكري.
والوزارة الجديدة التي أصدر الرئيس بشار الأسد قراراً بإحداثها، تستبدل الوزارة القديمة التي تم إنشاؤها العام 1961 وتمارس المهام نفسها بالإضافة إلى مهام جديدة كانت تمارسها أصلاً مثل الرقابة على الدراما. والجديد هو إنشاء هيئات رقابية ذات إطار تنفيذي مستقل لممارسة تلك المهام، خصوصاً ما طرأ منها على مدى السنين، مثل مواقع التواصل والإعلام الإلكتروني والنشاط عبر الإنترنت، علماً أن النظام قام منذ العام 2017 تدريجياً بسن قوانين خاصة بالجريمة الإلكترونية تستهدف أساساً الأصوات الناقدة للسياسات الحكومية.
ووجود وزارة للإعلام هو مشكلة في حد ذاته، لأن وزارة من هذا النوع لا ينبغي أصلاً أن تتواجد في مجتمعات معاصرة ومتحضرة، ووجودها هو مجرد إشارة لطبيعة النظام الشمولي الحاكم لا أكثر. وقراءة أدوارها ووظائفها تفسر كيف يتم التحكم بالمعلومات، حيث تمنح الوزارة التراخيص لوسائل الإعلام والمطبوعات ووسائل التواصل عبر الإنترنت ومواقع التواصل، كما تمنح الاعتمادت الخاصة المكاتب الإعلامية لوسائل الإعلام الخارجية، فيما تشرف على مراكز التدريب الإعلامي من أجل تأهيل كوادر جديدة من صانعي الدعاية الرسمية، وصولاً إلى الإشراف على مراكز البحوث الإعلامية واستقصاء الرأي لتقديم بيانات متحيزة، وإجراء التقييم الفكري للكتب والمخطوطات وإجازة تداولها وتصديرها، وهو بند يبدو أقرب إلى مهام وزارة الثقافة منه للإعلام.
وبالطبع فإن إحداث وزارة جديدة لن يحل مشاكل الإعلام السوري الحقيقية التي يعانيها منذ عقود، مثل اللغة الخشبية والتوجيه المسبق وتحوله إلى إعلام يحاكي نفسه ويجتر خطابه لعدم وجود جمهور يتابعه أصلاً، إضافة للطبيعة المافيوية التي تسيطر عليه من الداخل والتي جعلته يحافظ على نوعية سيئة من الخطاب الرديء من دون مواكبة الزمن أو محاولة كسر الجمود، حيث تحل العلاقات الشخصية مكان الكفاءات المهنية في تحصيل الوظائف والحفاظ عليها، فضلاً عن مشاكل التأخير في نشر المعلومات والتعتيم الإعلامي والشخصانية التي يتم بها التحرير والتوصيف، واستغباء الجمهور ومعاملته كمتلق يجب عليه تقبل ما يملى عليه كـ"واجب وطني".
ولا يحاول النظام السوري عبر الوزارة الجديدة تطوير الإعلام الرسمي، بل يكرس كل أخطائه المتكررة عبر العقود، ويقدمها كقالب جاهز للعمل الإعلامي في البلاد بصيغة "قانون جديد وعصري" بمعنى أنه يقدم إطاراً قانونياً للقمع في ما يخص بنوداً جديدة لا يغطيها القانون السابق، وتحديداً ما يخص الإنترنت ومواقع التواصل. والغاية الأخيرة من ذلك هو تعميم الصمت في البلاد والحفاظ على صورة براقة للسلطة التي تقوم بمهامها الخدمية تحديداً، بشكل يعاكس الواقع المزري حيث يقبع 85% من السوريين تحت خط الفقر ويعاني أكثر من 60% منهم من انعدام الأمن الغذائي بحسب الأمم المتحدة، ما يعني حتماً وجود استياء شعبي إلى حد معين لا يلقى صدى في الإعلام الموجود.
وفيما يشكل القمع والملاحقة القانونية والاعتقالات مواد قوانين العقوبات والجريمة الإلكترونية وجزءاً من مهام وزارة الداخلية، فإن وزارة الإعلام تعمل بالتعاون مع تلك الجهات لقمع حتى الصحافيين الموالين في وسائل الإعلام الرسمية في حال مخالفتهم الخطاب الرسمي بمنشور بسيط في "فايسبوك" على سبيل المثال. كما أن الوزارة تختص أكثر في تنظيم عمل وسائل الإعلام والرقابة المسبقة واللاحقة على المؤسسات والأفراد النشطين في مجال الاتصال والإعلام والإعلان.
ومنذ انطلاقة الثورة السورية العام 2011 كانت حرية الإعلام من أولى الشعارات التي رفعها السوريون ممن طالبوا حينها بمزيد من الحريات السياسية إثر عقود من الحكم الشمولي. وفيما كانت البلاد خالية من الإعلام الخاص طوال حكم الرئيس حافظ الأسد، فإن ابنه بشار بعد توليه الحكم العام 2000 سمح بإنشاء وسائل إعلام خاصة وإذاعات لا تخوض في السياسة، وكانت تلك الامتيازات تعطى بالدرجة الأولى لرجال الأعمال المرتبطين بالسلطة، لا أكثر، ما خلق وهماً بوجود تحسن في الحريات الإعلامية، وأفضى لاحقاً إلى تسمية تلك الوسائل بـ"الإعلام شبه الرسمي".
وردّ النظام بعد الثورة بستة أشهر، بطرح إصلاحات شكلية على قانون الإعلام ضمن حزمة إصلاحات لم يتم تطبيقها على أرض الواقع أصلاً. وبخصوص الإعلام تحديداً قام النظام بطرد مراسلي وسائل الإعلام العربية والأجنبية واعتمد على "الإعلام المقاوم" وأسس مجموعة من الناشطين الإعلاميين لمرافقة الجيش السوري والميليشيات الرديفة له ثم قام بتجميد الصلاحيات المعطاة لهم عندما بدأوا بتوجيه الانتقادات للحكومة في ملفات خدمية كالكهرباء وارتفاع الأسعار.
وتدريجياً بعد العام 2016 عاد المشهد الإعلامي في البلاد إلى ما كان عليه قبل الثورة، حيث يتم ضخ المعلومات عبر وسائل الإعلام الرسمية، لنسخها ولصقها في "الإعلام الخاص" شبه الرسمي، ومواقع التواصل الاجتماعي التي تشرف عليها دوائر الأمن والمخابرات.
ومنذ العام 2017 أصدر النظام السوري توجيهات داخلية تتضمن تقليلاً من النقد للمسؤولين والحديث عن الإيجابيات، وهو ما رفضه العديد من الناشطين الموالين حينها ما أدى لاعتقال كثر، أبرزهم وسام الطير صاحب صفحة "دمشق الآن"، ونفي آخرين مثل إياد الحسين، وإسكات غيرهم بإيقافهم عن العمل، فيما اعترفت وزارة الداخلية العام 2020 بالسيطرة على الصفحات الاجتماعية ومراقبة حسابات السوريين من الأفراد العاديين في مواقع التواصل.
والوزارة الجديدة/القديمة اليوم هي استكمال قانوني وتنظيمي لكل تلك الجزئيات التي تراكمت عبر السنين، لا أكثر، والتي أعاد النظام السوري بها ضبط البث الاعلامي بما لا يخرج عن سيطرته، أو لا يهدد صورة "الدولة المنتصرة" بعد سنوات التشظي والفوضى. ويعني ذلك أن النظام السوري يسعى إلى إعادة تكريس جذوره القمعية بالقول أن الثورة ليست إلا حادثاً عرضياً خارجياً انتهى، ليس فقط على صعيد الاضطراب السياسي والأمني بل على صعيد الاضطراب الإعلامي الذي أتى بشكل "تعددية" إعلامية وهمية سمح بها النظام. واليوم يركز النظام مجدداً بالوزارة الجديدة على أن المواطنة في سوريا تقتضي الخضوع التام للقيادة التي تمتلك وحدها سلطة التحكم بالمعلومات وتحديد ما هو الجيد وما هو السيئ في أي لحظة.
وإن كان النظام مازال يحاول إدارة البلاد بأسلوب الثمانينيات عندما كان التحكم بالمعلومات أسهل من ناحية تقنية، فإن النصوص القانونية المتتالية منذ العام 2020 تعطي انطباعاً بأنه ينتبه للتطورات التكنولوجية التي كانت ربما سبباً غير مباشر لثورات الربيع العربي ككل، بما في ذلك الثورة السورية، حيث سمح الإنترنت للأفراد بامتلاك معلومات أوسع عن بلادهم وعن العالم كما سمح لهم بالحلم بحياة أفضل وبتنظيم أنفسهم بعيداً من الرقابة الرسمية.
وتصنف منظمة "مراسلون بلا حدود" سوريا في المرتبة 175 من أصل 180 دولة على مؤشر حرية الصحافة، ليس فقط بسبب قتل "الدولة السورية" للصحافيين المعارضين واعتقالها الموالين الناقدين وتكميم أفواههم، بل أيضاً بسبب نظرة "الدولة السورية" للإعلام في البلاد كجهاز من الأجهزة الحكومية، ما يجعل وظيفته تتلخص في نقل البيانات الرسمية، وممارسته للرقابة الشاملة على الفضاء العام، بشكل يختلف عن طبيعة الإعلام في الدول الديموقراطية، حيث يشكل مساحة للحوار والنقاش وكشف الفساد وتوجيه الانتقادات ومحاسبة السلطة.