"الحياد" يشعل سجالات الشاشات اللبنانية: مقدمات نشرات الأخبار حاجة!
لسنوات، تفرد لبنان في المشهد الإعلامي العالمي، بمقدمات النشرات الإخبارية اللبنانية، وهو تفرد سلبي، لا يعدو كونه شحناً سياسياً تستميل فيها كل قناة متابعين ذوي خط سياسي بعينه، وذلك باعتراف مدراء التحرير في غالبية تلك المؤسسات، الذين حضروا ندوة في كلية الإعلام بالجامعة اللبنانية، الخميس، تحت عنوان "متاهة تقديم المحتوى الإعلامي وتحديات الموضوعية والحيادية".
وضمن فاعليات مؤتمر "الرابطة العربية للبحث العلمي وعلوم الإتصال"، في الملتقى الدولي التاسع للرابطة بعنوان "متاهات الإتصال ورهاناتها الثقافية في العالم العربي"، جمعت الندوة إعلاميين من قنوات MTV وLBCI و"الجديد" وOTV و"تلفزيون لبنان" و"الميادين"، إضافة إلى إذاعة لبنان، و"صوت لبنان" و"صوت كل لبنان". أجمعوا كلهم على توخي الموضوعية في نقل الخبر، وافترقوا على كلمة "الحياد" التي طبعت عنوان الندوة ومقدمتها وسجالاتها.
ففي حين هناك من يرى في الحياد هدفاً نهائياً للرسالة الاعلامية، هناك من يراه "خرافة" إما لاستحالة تطبيقه وطبيعة انحياز الصحافي في القضايا التي يغطيها، أو ببساطة لأن "الجمهور اللبناني عايز كده".
ووضعت تغطية وسائل الإعلام اللبنانية، حرب غزة والجنوب على مشرحة البحث، وكانت بحد ذاتها دلالة على أن الوقوف على الحياد أمر مستحيل، في القضايا جميعها، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بتمسك المؤسسات الإعلامية بمقدمات نشرات الأخبار، كرأي سياسي علني، تكرسه المحطات اللبنانية، وتطبع به أخبارها.
مقدمة "موقوتة"
وضمت الندوة كلاً من الإعلامي والباحث الدكتور راغب جابر، مدير "إذاعة لبنان" محمد غريب، المدير العام لإذاعة "صوت لبنان" أسعد مارون، رئيس التحرير التنفيذي في الأخبار في "تلفزيون لبنان" جلال عساف، رئيس تحرير موقع mtv داني حداد، رئيس تحرير الأخبار في LBCI جان فغالي، مدير مكتب بيروت ورئيس التحرير في "الميادين" عماد خياط، مقدمة البرامج في "صوت كل لبنان" كريستيل شقير، الباحث والإعلامي عباس ضاهر، الصحافي الاستقصائي في "الجديد" رياض قبيسي، والإعلامية في محطة OTV نورا زعيتر.
واستهلت الإعلامية ريما خداج، الندوة، بالحديث عن تحديات الإعلام اللبناني، لا سيما التمويل السياسي. وكانت مقدمتها كفيلة بتفجير انقسام عمودي في الندوة، حول موضوع "موضوعية الإعلام وحياديته"، ففي حين كان هناك شبه إجماع حول الموضوعية، كان الحياد محطّ جدل كبير.
الحيادية VS الموضوعية
رئيس تحرير الأخبار في LBCI جان فغالي، اعتبر أنه من الصعب الإجابة عما إذا كان الإعلام اللبناني يدور في "متاهة"، إلا أن تقديم الحقيقة على ما عداها برأيه، "وحده يجعلنا نتفادى المتاهة والتيه والضياع".
فغالي الذي أيد توخي الموضوعية في الرسالة الإعلامية، رأى فيها مساحة متوازية للرأي والرأي الآخر. لكنه في المقابل، انتقد زج مفهوم الحيادية كهدف من الرسالة الإعلامية، سائلاً: "لا أفهم ما المقصود بمصطلح الحيادية؟ هل دور الصحافة المراقبة فقط وتسجيل المخالفات؟ أم لها دور في الإضاءة على الخطأ من أجل تصحيحه؟". فالحيادية في الصحافة "تعيق الوصول للحقيقة التي هي هدف كل إعلامي".
وحتى الموضوعية ليست مطلقة في لبنان، برأي مدير تحرير موقع MTV داني حداد. فهناك 3 محطات تلفزيونية حزبية في لبنان، و3 غير حزبية، وجميعها تبث مقدمات نشرات أخبار تتضمن رأياً سياسياً واضحاً، يأخذ بعين الاعتبار مصالح وخصوصيات وحسابات، وهنا لا حيادية ولا حتى موضوعية.
في السياق، يسأل: هل المتابع اللبناني "غير المحايد" يريد "الحياد" أصلاً؟ بالطبع لا، بدلالة أن "تلفزيون لبنان"، بات خارج المشاهدة.
أما الصحافي رياض قبيسي فذهب أبعد برفض الحيادية، معتبراً أنها خارج النقاش، مستغرباً إتيانها في صلب عنوان الندوة. فالحياد في الصحافة "خرافة وأمر غير واقعي لتتم مناقشته، والحروب الأخيرة التي شهدها العالم وفي طليعتها حرب غزة، خير شاهد على ذلك".
وسأل قبيسي: "هل كانت مؤسسة BBC البريطانية حيادية حين كانت قوات هتلر تقصف في الحرب العالمية الثانية؟ بالطبع لا، وكذلك إعلامنا وإعلام الغرب اليوم: فلا هم ملتزمون بالحياد حيال حرب وغزة ولا نحن كذلك".
شهيد... ضحية... قتيل؟
وفي معرض رده على تصنيف خداج للمؤسسات الاعلامية التي لا تستخدم كلمة "شهيد" لضحايا الحرب في جنوب لبنان، "بغير الحياديين"، اعتبر قبيسي كلمة "شهيد" بحذ ذاتها انحيازاً، مذكراً بانشيت جريدة "السفير": "بيروت تحترق ولا ترفع الرايات البيضاء"، العام 1982، واستخدمت الصحيفة يومها مفردة "300 قتيل" لترمز لضحايا اسرائيل في بيروت ولم تقل "300 شهيداً"، معتبراً أن هذه المفردات متغيرة بتغير الانحيازات للقضايا وبتغير الثقافة عبر الزمن".
في المقابل، دعا قبيسي للنقاش حول الموضوعية القابلة للتحقق، "فنحن حكماً منحازون لأفكار معينة حتى لو لم يتحكم بنا تمويل سياسي، والموضوعية تتحقق بالنظر للحقائق بتجريد من دون تأثير انحيازاتنا عليها، وعلى الإنحياز لقضايا أو لأطراف فيها ألا يؤثر في قناعاتنا ومعيار نشرنا للخبر".
التلفزيون الوطني: حيادية أم رقابة ذاتية؟
أما رئيس التحرير التنفيذي في نشرة "تلفزيون لبنان" جلال عساف، فسلط الضوء على أهمية التلفزيون اللبناني الرسمي، ورسالته الوطنية في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به البلاد، مشيراً إلى "أننا نعمل بأقصى طاقاتنا، رغم تحدي التمويل، الذي لا يتجاوز 5% فقط من تمويل بقية المحطات".
ويشهد لـ"تلفزيون لبنان" أنه الوحيد الذي ألغى مقدمة نشرة الأخبار، تخففاً من وطأة طبعها بموقف سياسي. وهو ما يجعل الحاجة ملحة للتفكير بأهمية دعم الإعلام الرسمي الوطني، "الحيادي" بابتعاده عن الانقسامات السياسية العامودية، مع عدم تجاهل أنه شبه "حيادي" أيضاً في انتقاده للسلطة، بما أنه الناطق باسم الدولة اللبنانية.
ولم ينج رئيس "إذاعة لبنان" محمد غريب بدوره، الذي تحدى جميع الحاضرين بإيجاد أي محتوى "غير حيادي" في الإذاعة، من الانتقاد بسقف حرية منخفض، لإذاعة تمويلها حكومي، وهو ما اعتبره بعض الحاضرين "رقابة ذاتية استباقية على الخبر يمارسها العاملون في الإذاعة، تجعل السلطة بغنى عن الرقابة عليها". ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الإذاعة تعمل باللحم الحي، لا سيما مع وقف الاعتمادات المالية لها لفترات، وهو ما جعل ميزانية برنامج إذاعي فيها اليوم لا يتتجاوز 700 ألف ليرة.
المشكلة في السياسة
وكانت مداخلة نقدية للمشهد الإعلامي اللبناني للدكتور راغب جابر الذي اعتبر أن ما يخبأ من حقائق هو أكثر بكثير مما ينشر، وما يقال تحت الهواء هو الحقيقة التي تبقى في المجالس و"أماناتها"، أما ما يبث على الهواء فهو الكذبة بعينها.
ويعزو ذلك إلى سيطرة رجال السياسة والمال والأعمال ورجال الدين على الإعلام اللبناني، في حين يستحيل المتابع أو المشاهد "زبوناً" لدى المؤسسة، التي توافق أهواءه السياسية، ويحجب المؤسسة التي تعاكس أهواءه السياسية، وهكذا عوض أن تكون المؤسسات الإعلامية اللبنانية عاملاً موحداً، تصبح التعددية فيها نقمة.
وصوّب جابر على أصل المشكلة، والتي يراها في السياسة وليس في الإعلام وحده، "فالبلد يدار بلا سياسة، ما يغرق الإعلام في حالة من الفوضى، ويجعل للحقيقة نسخات عديدة، ولكل وسيلة إعلامية نسختها الخاصة بها".
جابر، إذ رأى بأن السياسة في لبنان ليست إدارة مصالح الناس بل مناطحة بين قبائل مسماة طوائف، يرى الإعلام أداة لهذه القبائل، تأتمر بأمرها، فتدافع عن اللصوص والفاسدين والمحسوبين على طوائف بعينها، مستخلصاً أن الإعلام نفسه تحميه الطائفة، ولا يمكن له الا أن يحافظ على نفسه بالطريقة ذاتها التي يحافظ فيها على اللصوص.
مع ذلك، ذكّر جابر بمحطات مضيئة للإعلام اللبناني، عبر محاولات لكشف الفساد ومحاربته، مستخلصاً أن الاعلام اللبناني رغم كل علاته، يبقى افضل اعلام في العالم العربي الذي يسيطر عليه المال والسلطة.
القيم موجودة... بانتظار القانون
أسعد مارون، رأى بأن الموضوعية لا تتطلب استراتيجيات ضخمة لتحقيقها، بل خطوات بسيطة عبر سياسة تحريرية تلتزم الموضوعية والمهنية والصدق والدقة وعرض وجهات النظر بشكل متوازن، والنقد الذاتي، والاعتراف بالخطأ والتراجع عنه، والابتعاد عن دغدغة المشاعر وتأجيجها، للوصول لإعلام حر وقادر على ترسيخ أسس التفاهم ووعي التنوع الثقافي في مجتمعنا. لكن هذه القيم، غير كافية برأيه حتى لو ترافقت مع قوانين ومواثيق شرف تضبط المهنة أخلاقياً، "فما نحتاجه هو الرقابة الذاتية المتفلتة من كل قيد".
فغالي من جهته، رأى بأن الحل لتحقيق الموضوعية، لا سيما على صعيد هاجس التمويل وتأثير الممولين في توجهات المؤسسات، يكمن بوضع ضوابط وشروط أمام الممولين، كي لا يصبح كل متمول، رئيس تحرير مستتر للمحطة الإعلامية. لكن حتى هذه الضوابط والقيم الذاتية للمؤسسات لا تحقق الموضوعية برأيه، إن لم تترافق مع قانون عصري يحمي المهنة وعمالها، ويطبق على الجميع، وهو ما يجعل المؤسسات ترتدع عن الوقوع في أخطاء قد تحاسب عليها.