الذكورية والعنصرية والشعبوية...من أسباب عودة ترامب للبيت الأبيض
يعود السبب الأول إلى "العامل الشخصي"، فرغم أن ترامب ملياردير وأصبح جزءاً من النخبة الأميركية منذ عقود، فإنه يبدو قريباً من الناس بالنسبة للعديد من الأميركيين، كونه يتحدث بعفوية مثل شخص عادي في حانة، بل وتصدر منه أحياناً كلمات غير لائقة.
ويقول ترامب بحرية ما يدور في ذهنه، وبمقدوره أيضاً فرض رأيه. كما أنه معروف كمقاتل، وليس فقط منذ محاولة اغتياله قبل أشهر. يبدو أن هذه صفات يرغب الناخبون في رؤيتها في البيت الأبيض. وفي المقابل، فإن احترافية نائبة الرئيس كامالا هاريس وقدرتها على التركيز يراها البعض تعالياً أو شيئاً غير حقيقي.
ولا يعني ذلك أن معظم الأميركيين معجبون بترامب أو حتى يحبونه. ففي الواقع، أشارت استطلاعات الرأي إلى أن الغالبية لديها انطباع سلبي عن شخصيته. ورغم ذلك، ينظر إليه البعض باعتباره مرشحاً يمكن انتخابه، من ناحية أنهم لا يريدون رئيساً "قديساً"، ولأنه يدعم مواقف تهمهم.
أما خطاب الديموقراطيين الذي يُصور أن عودة ترامب (78عاماً) المدان في جرائم، لفترة ثانية، ستكون كارثية، فلم يؤثر في كثيرين، لأنه شغل بالفعل منصب الرئيس لمدة أربع سنوات، ولم يبدأ حروباً ولم يدمر الاقتصاد الأميركي، حسب وجهة نظرهم. ولهذا، يمكن التغاضي عن الفضائح والجدل والفوضى التي حدثت في فترته الأولى بسهولة.
ويعود السبب الثاني إلى المال، حيث لا يوجد أي مجتمع آخر في العالم تبنى الرأسمالية المفرطة بشكل أكبر من المجتمع الأميركي. ويعتمد النظام الاقتصادي بشكل كبير على الأسواق الحرة وتقليل التدخلات الحكومية، وفكرة المشاريع الحرة. بالنسبة للعديد من الناخبين، يأتي الاقتصاد دائماً على رأس أجندتهم.
لكن في الحملات الانتخابية، نادراً ما كان الموضوع هو النمو أو الاتجاه العام للاقتصاد الوطني، بل يتعلق الأمر بأمور أبسط، مثل سعر اللبن والبيض ورقائق البطاطا والبيرة في السوبرماركت، وثمن البنزين.
وأدت جائحة كورونا إلى ارتفاع الأسعار بسبب التضخم، وإن لم يكن ذلك حكراً على الولايات المتحدة، لكن كل ناخب شعر بهذا الارتفاع في محفظته يومياً، حتى مع ارتفاع الأجور بمرور الوقت. وألقى كثيرون اللوم على سياسات الرئيس جو بايدن الاقتصادية ونائبته كامالا هاريس. وأعربوا عن استيائهم بأصواتهم الانتخابية، مقدمين أولوياتهم المالية الشخصية على قضايا مثل الفضائل الشخصية أو القيم الديموقراطية.
ويرجع السبب الثالث إلى التبعيات، حيثت تتمثل القاعدة الأكثر ولاء لترامب بالدرجة الأولى في الرجال البيض الذين لا يحملون شهادة جامعية. وأظهرت الإحصائيات أن دخل هذه الفئة في الولايات المتحدة كان أعلى بكثير من المتوسط الأميركي العام 1980، لكنه اليوم أصبح أقل منه على نحو ملحوظ. ففي مجتمع تتركز فيه الثروات الهائلة للبلاد بشكل متزايد في المدن الكبرى، خصوصاً على السواحل، بفضل قطاعات مثل التكنولوجيا والصناعة المالية، لم يعد النظام يعمل لصالح العمال في الولايات التي كانت تعتمد على الصناعة سابقاً، مثل بنسلفانيا.
لكن شعبية ترامب تزايدت في تأييد فئات سكانية أخرى، منها الأميركيون من أصول لاتينية، وهي فئة كانت تُعتبر حتى وقت قريب هدفاً مهما بالنسبة للديموقراطيين، إضافة إلى الرجال من جيل "زد". ورغم ذلك، لم تتمكن هاريس من تحقيق النجاح المنشود لدى الكتلة الكبيرة من الناخبين ذوي الخلفية اللاتينية. وحتى بين الرجال السود، حقق الرئيس الحالي جو بايدن قبل أربع سنوات نتائج أفضل، بحسب البيانات الأولية، مقارنة بما حققته هاريس حالياً.
ويتمثل السبب الرابع في الخوف من استمرار الوضع على ما هو عليه. فهنالك مثل رائج في الولايات المتحدة يقول: "يجب كسر البيض لصنع العجة"، ويعني ذلك أن بعض الأمور يجب تدميرها أحياناً لإصلاحها.
ورأى كثيرون في هاريس مرشحة النظام الحاكم، بينما وعد ترامب الذي يعتبر مرشحاً مناهضاً للنظام، في حملته بتغيير جذري. وزعم أن كل الأمور ستكون مختلفة تماما في رئاسته، مشيراً إلى أن فوز هاريس، العضو في الإدارة الحالية، سيكون بمثابة استمرار للوضع على ما هو عليه. ولاقى هذا الوعد صدى بين الأميركيين، ويشعر العديد منهم أن شيئاً ما يجب أن يتغير.
ووجد هؤلاء أن الخطاب موجه إليهم عندما وصف ترامب الولايات المتحدة بصورة قاتمة، وبأنها دولة آخذة في الانحدار ومكتظة بالمهاجرين. ويبدو أن ترامب يمتلك غريزة لا تخطئ حيال ما يقلق الناس. في استطلاعات ما بعد التصويت، ذكر 73% من ناخبيه أن الشيء الأهم بالنسبة لهم هو أن ترامب قادر على إحداث التغيير الضروري.
ويرجع السبب الخامس إلى عدم الرغبة في وجود امرأة سوداء في منصب الرئيس، لأن هناك قطاعات من السكان ما زالت لا تستطيع أن تتخيل وجود امرأة على رأس أقوى دولة في العالم.
ورغم تزايد عدد النساء اللواتي يشغلن مناصب حاكمات ولايات أميركية في السنوات الأخيرة، فإن كثيراً من الناس يفكرون بشكل مختلف، خصوصاً في الولايات الجنوبية وغيرها من المناطق المحافظة والريفية في كثير من الأحيان.
وتعتبر الكنيسة البروتستانتية الإنجيلية جزءاً لا يتجزأ من ثقافة "حزام الكتاب المقدس". وضمن تلك الأيديولوجيا الدينية تعتبر النسوية بمثابة كلمة نابية. كما أن عدم إنجاب هاريس لأطفال بيولوجيين لم يحظ بقبول جيد بين تلك الفئة.
وإضافة إلى ذلك، مازالت العنصرية والتمييز ضد السود والأقليات الأخرى متجذرة بعمق في العديد من أجزاء الولايات المتحدة، كما تظهر الإحصائيات في جميع مجالات المجتمع. تُشكل هذه الظواهر مجتمعة نوعاً من الشوفينية العنصرية التي يُحتمل أنها كلفت هاريس بعض الأصوات. واستغل ترامب هذه المشاعر في حملته الانتخابية بشكل ممنهج.
وبحسب استطلاعات الرأي بعد التصويت، حصل ترامب على أصوات أكثر بفارق كبير بين المسيحيين الإنجيليين والبروتستانت والكاثوليك، مقارنة بهاريس. وأفاد العديد من ناخبي ترامب بأن قرارهم كان يعتمد بشكل كبير على مدى ثقتهم في من سيقود البلاد، بينما ركز ناخبو هاريس على أهمية امتلاك المرشح لحسن التقدير.
ويرجع السبب السادس إلى الآفاق السياسية العالمية، فكثيراً ما تم التكهن قبل الانتخابات حول ما إذا كان الصراع في الشرق الأوسط سيكلف الديموقراطيين أصواتاً.
وبالنسبة للعديد من الأميركيين ذوي الأصول اليهودية، لم يكن دعم بايدن لإسرائيل كافياً، بينما رأى العديد من المواطنين من أصول عربية أن هذا الدعم زائد عن الحد. وانعكس ذلك في استطلاعات ما بعد التصويت، حيث قالت غالبية كبيرة من ناخبي ترامب إن الولايات المتحدة يجب أن تدعم إسرائيل بشكل أكبر.
ورغم ذلك، ربما كان العامل الحاسم في فوز ترامب هو عزمه على إبقاء الولايات المتحدة بعيدة من النزاعات الدولية قدر الإمكان. فهو يعِد، على سبيل المثال، بإنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة حيث يرى بعض المواطنين الأميركيين في ذلك ميزة، لأن ذلك يعني تقليل الأموال التي تذهب من ضرائبهم إلى الخارج.