العائشات في الزيتون

بسمة الخطيب
الإثنين   2024/11/04
من مجموعة "القطاف الأول" للفنان اللبناني جيلبير حلبي
حين بدأنا، أخوتي وأنا، نهتمّ بالأبراج والطوالع، قالت أمّنا إن شهادة ميلادها ليست دقيقة التواريخ، والأكيد الوحيد هو أنّها ولدت في موسم الزيتون. تصرّ إلى اليوم على أنّها من برج الميزان (بين 22 أيلول و23 تشرين الأول)، تزامناً مع موسم الزيتون في بلدتنا المطلّة على ساحل المتوسط. الزيتون ذاته من برج الميزان على ما يبدو.

ولدت أمّي في موسم الزيتون إذاً. هذه حقيقة أقوى عندنا من التاريخ الموثّق رسمياً في شهادة ميلادها. يومذاك، أصرّت جدّتي النفساء على مرافقة نسوة الأسرة إلى القطاف. لم يستطعن ثنيها عن قرارها الحاسم. استعانت بإحدى عجائز العائلة لتعتني بالرضيعة خلال غيابها في الحقل. محمّلة بأغبرة الشجر ورائحة الزيتون الأخضر والتراب الجافّ، كانت جدّتي تأتي أكثر من مرة خلال النهار لترضع طفلتها ثم تعود لمتابعة القطاف المضني.

زيت الزيتون يدرّ حليب المرضعة. ينصح به للمرضعات، فكيف إن كنّ يرضعن في موسمه! أتخيّل سعادة جدّتي في تلك اللحظات. هناك أيضاً مهمّة رصّ الزيتون وكبسه مؤونة للعام. بعد أن ترضع طفلتها، كانت جدتي تضرب حبات الزيتون المختارة بعناية -كبيرة ومكتنزة بالزيت- بحصاة مبلطحة نسمّيها زلطة، لتشقّها قليلاً، ثم تضعها في جرار تملأها بالماء والملح وقطع الليمون أو بعض الخلّ، لأن الملح والخلّ أساسيان لعدم تعفّن الزيتون على مدار الشهور.

كلّ حبّة بحبّتها
لم تهتمّ أمّي بيوم مولدها يوماً، لم تكن تحتفل به. كنا وما زلنا، إلى اليوم، نستعيض عنه بالاحتفال بعيد الأمّ في 21 آذا، مع بقيّة الأمّهات. ليس لأمي يومها الخاصّ. لا يهمّها، إنه عندها محض رقم.

رغم كل الظروف، واظبت أمّي التي واكبت حروب لبنان الحديثة كلها، على قطاف الزيتون. رغم أنه قطاف متعب، إلا أنّ قلبها يزقزق فرحاً له. أختاها مثلها، ويمكنني أن أفهم سرّ فرحتهنّ. لقد كبرتُ مع الفرحة والشوق والتقدير لهذه الشجرة وثمارها وخيراتها. ورثَت عن أبيها شجرات الزيتون تلك، حافظت عليها أمّها الأرملة الشجاعة والمكافحة بدمع عينيها ودم قلبها. كلّ حبّة تراب حول تلك الأشجار تعرف أصابع جدّتي. لقد مرّت بها واحدة واحدة، وشبراً شبراً، وتعرف أيضاً أصابع خالتيّ وأمّي.

الأمر ليس برّاً بالوالدين فقط، بل ثروة لا تقدّر بمال. كلّ حبّة زيتون لها وزن. تعيد النساء القاطفات فحص شجر الزيتون للتأكد من أن حبّة لم تُنسَ على الأغصان، ثمّ يعدن مسح الأرض للتأكد من أنّ حبّة لم تترك خلفهنّ، حتى الحبّات اليابسة منها لا تُهمل أو تُحتقر، بل تُجمع لأجل صنع الصابون، وصابون الزيت في معتقد نسوة أسرتي ومعتقدي أنا لا يمكن أن يُستبدل بأيّ صابون آخر. مفهوم النظافة الشخصية والانتعاش هو صابونة الزيت تلك.

المؤونة الكنز
حتى في مواسم الجدب، لطالما تدبّرت أمّي أمر الزيت والزيتون والصابون، لها ولنا. في سنوات الخير والمحل، تصل حصصنا إلى بيوتنا. اكتشفنا مؤخّراً أنّ أمّي وأختيها يخبّئن الزيت ككنز في سرّية تامّة. فبعدما سأل شخص عن زيت للبيع، أنكرن أن يكون لديهن شيء من الموسم الفائت، ثم اكتشفنا أنّ لديهن بعضه. قالت خالتي الكبرى إنها لا يمكن أن تترك غرفة مؤنتها من دون زيت، وإن كان قديماً. لا يمكن أن يهنأ لها عَيش وليس في البيت مخزون من الزيت، وهي لن تبيعه لأي غريب. هناءة بالها أغلى من أي ثمن.

هذا الموسم، وصلتني حصّة من زيت أوّل قطفة. بلّلت قطعةَ خبز بزيت الزيتون وأكلتها. سارعت سبابتي إلى التقاط نقطتي زيت وقعتا على الطاولة. لحستهما وكأني أعتذر إليهما. في مطبخي، كما في مطبخ أمّي وأمّها، لم تُهدر يوماً قطرة زيت زيتون. هذا تقليد عائلي، عُرف مبجّل. نحبّ زيت الزيتون كماء عيوننا. ندّخره وننتظر خيره كلّ عامين. وبما أنّه يحمل سنة ويجدب سنة، فقد علّمنا الكثير عن الحياة وتدبّر أمورنا فيها.

على مدار العام...على مدى العمر
تعرف أمّي كلّ زيتونة بالإسم. اتفقت مع أختيها وأمها على أسمائها: زيتونة الوقف (لأنها عند حدود أرض للوقف السنّي)، زيتونة السمقمقي الصغيرة (نوع من الزيتون الصغير)، السمقمقي الطويلة، زيتونة بيت فلان (لأنها مطلّة على منزل ذاك الفلان)، الزيتونة الزرقاء (لأن خَضار حباتها يميل إلى الزرقة)، والزيتونة المصريّة... وفي موسم الفلاحة، كما في موسم التشذيب، تدور النقاشات والأحاديث حول مَن سيفلح وكم سيتقاضى ومَن سيشذّب وأي أغصان بالتحديد... لذا فإنّ هذه الأشجار تشغل الاهتمام طوال العام تقريباً.

اندلعت الحرب. بدأتُ وأخوتي تدابير إنقاذ أولادنا، سواء عبر الانتقال على مناطق أكثر أمناً في داخل لبنان أو السفر إلى الخارج. لم نجرؤ على سؤال أمّي إن كانت سترحل مع الراحلين منّا. نحن نعرف الإجابة. لن نجرؤ أن نطلب منها أو أن نحذّرها ونعبّر عن خوفنا من أن تطاولها يد الحرب الغاشمة. كانت إجابتها راسخة في عينيها، وهي ترى خوفنا عليها. وتلك الإجابة كانت تثير دموعنا أيضاً.

ذريعة للبقاء
كلّما كلّمناها من الخارج، تطمئننا على حالها، وتضحك لأمر هنا أو هناك. يتراقص صوتها بسعادة وهي تخبرني: "رحت اليوم عالزيتون"... "بكرة رايحة عالزيتون"... "بكرة رايحة عالمكبس"... "بعدني واصلة من المكبس، ضليت ع ايدهم لحتى جبت الزيتات معي"... "قطعو تنكتين سمالله"...

سينتهي الموسم قريباً. وستخزّن أمّي حصصنا من الزيت والزيتون وصابون الزيت. إجابتها لا تزال على صلابتها. لن تترك الزيتون وترحل إلى أيّ مكان. لقد ولدت في "الزيتون". ولدت فيه وستبقى عائشة فيه.