أحمر
الموجة الجمهورية التي اجتاحت أميركا كانت مفاجئة لكثيرين. ولايات بنفسجية تحوّلت حمراء قانية، ومدّ شعبوي غير مسبوق للرئيس العائد بزخم لا مثيل له. وفي ظلّ فرح البعض، واستياء آخرين، أراقب بحذر ما تحمله هذه الموجة البعيدة كل البعد من الأحمر الشيوعي.
فالأحمر هنا في الولايات المتحدة، حيث يتحسّس الناس من أي شبهة يسارية، يحمل معاني مغايرة، رغم صلة قرابته المعكوسة أحياناً بالأحمر العالمي. أفكّر تحديداً في الرّقاب الحُمر (red necks) أو طبقة الفلاحين المتحدرين من جنوب الولايات المتحدة، هؤلاء الذين يُقال بأن الإسم اطلق عليهم بسبب رقابهم المحمرّة من العمل تحت الشمس اللاسعة، فيما يُرجع البعض هذه التسمية إلى تأثّرهم بالمدّ الشيوعي والثورات العمّالية التي اندلعت في مناطقهم، قبل المرحلة المكارثية وخلالها. هؤلاء الذين هوى معظمهم إلى طبقة المعدومين بعدما غادروا أرضهم نحو مصانع الشمال التي سرعان ما أقفلت وتحوّلت إلى حزام صدئ يزنّر بلاداً شاسعة تدفع بهم إلى حضيض لا هوّة له، من انتشار السلاح والجريمة وإدمان المخدرات والتمزّق الاجتماعي القاتل.
ولعل كتاب نائب الرئيس المنتخب، جي.دي.فانس، والفيلم المقتبس عنه، يعطيان فكرة عن هذه الطبقة التي ضاعت أحلامها مع وقف الصناعات التقليدية، فقررت توجيه صفعة قاسية للنخبة بكل تفرّعاتها، موّجهة غضبها ضد أفكار ما يُعرف بالـ"ووك" أو ثقافة العدالة والمساواة الاجتماعية والجنسية، التي حوّلها اليمين إلى شتيمة يُقصد بها الفساد وتدمير البلد وقيم العائلة.
الغريب في هذه الانتخابات هو اتفاق الأضداد على دونالد ترامب! ففي حين يتوقع المرء أن تكون شعبيته منخفضة بين المهاجرين، يفاجأ بأن نسبة لا يستهان بها من اللاتينو والعرب وبعض السود، عبّروا علانية منذ ما قبل الفوز عن دعمهم له. وبحكم عملي في مكانين مختلفين، أحدهما هو الوسط الأكاديمي، والآخر في الخدمة الاجتماعية مع المهاجرين من أصول عربية ومسلمة، أشهد محادثات كثيرة كل يوم، لا أستطيع تصنيفها إلا في إطار الكوميديا السوداء!
زملائي وطلابي الشباب الذين خرج كثر منهم في تظاهرات الاحتجاج على الحرب في غزة، في حالة عميقة من الصدمة بعد هذه النتيجة، ويعتبرون أن الرئيس المقبل يشكّل تهديداً للديموقراطية والفكر المؤسساتي، مضيفين بأن أميركا ليست جاهزة بعد لانتخاب امرأة بسب الذكورية العميقة المترسّخة في المجتمع. بينما يعبّر مهاجرون كثر عن فرحتهم بفوز ترامب الذي سيوقف الحروب ويقفل الحدود وينفخ الدولارات في الجيوب. هؤلاء المهاجرون يزايدون على الأميركيين في أميركيتهم، ويذكرونني ببوق اليمين الفرنسي، إيريك زيمور، المعادي للمهاجرين وهو نفسه من أصل جزائري.
يضع فلسطيني أميركي في مكتبه، علم وخريطة فلسطين، وكوفية وتطريزاً تقليدياً إلى جانب صورة "السيد الرئيس" الجديد، في مشهد يبدو لي قمة في الكاريكاتورية، لكنه طبيعي بالنسبة إليه. فقد نجح ترامب في تقمّص صفة المخلّص في نظر الجميع تقريباً، واستفاد من لحظة حنق تاريخي ليصعد إلى السلطة مجدداً. الجميع يبحث اليوم عن القائد الذي يتحدّى النظام القائم، وقد قدّم ترامب نفسه على أنه روبين هود الغني، الذي يتجسّد فيه الحلم الأميركي، فتماهى معه كثر من الفقراء الذين يرون فيه صورة لما يمكن أن تكون عليه حياتهم.
ترامب هو مسيح القوة المطلقة، لا مسيح التضحية والإيثار: زعيم شعبوي شبيه جداً بزعماء ما قبل الحرب العالمية الثانية، خارج من قمة اليأس ومن دعوات الانتقام، بعد الفشل العميم وسقوط النظام العالمي وبالتالي هو الأكثر تمثيلاً لهذه الحقبة.
أعود إلى مكتبي الصغير. أقفل الباب على نفسي طلباً لبعض الهدوء والسكينة. أحاول الابتعاد عن إدماني الجديد على نشرات الأخبار ومتابعة أماكن القصف في بيروت والمناطق. يتسلّل ملّل عميق إليّ وعدم رغبة في القيام بشيء: أقفل اللابتوب وأقرر المشي قليلاً في الحرم الجامعي. وحده علم فلسطين المرفوع على شقق عديدة يمنحني أملاً بأن شيئاً ما على وشك أن يتغيّر، إيمان هؤلاء الشباب الذي لا يتزحزح بالعدالة والمساواة، رغم الضغوط الكثيرة التي يمارسها عليهم السيستم، مثير جداً للاعجاب.
أودّ أن أطرق باب كل بيت يرفع علم فلسطين، وأشكر أهله واحداً واحداً، باسم المسحوقين تحت الردم، اليائسين من أي رحمة. أرفع رأسي وأواصل السير، شجرة عارية تعانق غصونها سماء الشتاء. لا بد أن يتغيّر شيء! وفي الانتظار سنواصل العمل والإيمان والصبر حتى ترى منطقتنا العربية لوناً آخر، غير أحمر الدم المرعب.
فالأحمر هنا في الولايات المتحدة، حيث يتحسّس الناس من أي شبهة يسارية، يحمل معاني مغايرة، رغم صلة قرابته المعكوسة أحياناً بالأحمر العالمي. أفكّر تحديداً في الرّقاب الحُمر (red necks) أو طبقة الفلاحين المتحدرين من جنوب الولايات المتحدة، هؤلاء الذين يُقال بأن الإسم اطلق عليهم بسبب رقابهم المحمرّة من العمل تحت الشمس اللاسعة، فيما يُرجع البعض هذه التسمية إلى تأثّرهم بالمدّ الشيوعي والثورات العمّالية التي اندلعت في مناطقهم، قبل المرحلة المكارثية وخلالها. هؤلاء الذين هوى معظمهم إلى طبقة المعدومين بعدما غادروا أرضهم نحو مصانع الشمال التي سرعان ما أقفلت وتحوّلت إلى حزام صدئ يزنّر بلاداً شاسعة تدفع بهم إلى حضيض لا هوّة له، من انتشار السلاح والجريمة وإدمان المخدرات والتمزّق الاجتماعي القاتل.
ولعل كتاب نائب الرئيس المنتخب، جي.دي.فانس، والفيلم المقتبس عنه، يعطيان فكرة عن هذه الطبقة التي ضاعت أحلامها مع وقف الصناعات التقليدية، فقررت توجيه صفعة قاسية للنخبة بكل تفرّعاتها، موّجهة غضبها ضد أفكار ما يُعرف بالـ"ووك" أو ثقافة العدالة والمساواة الاجتماعية والجنسية، التي حوّلها اليمين إلى شتيمة يُقصد بها الفساد وتدمير البلد وقيم العائلة.
الغريب في هذه الانتخابات هو اتفاق الأضداد على دونالد ترامب! ففي حين يتوقع المرء أن تكون شعبيته منخفضة بين المهاجرين، يفاجأ بأن نسبة لا يستهان بها من اللاتينو والعرب وبعض السود، عبّروا علانية منذ ما قبل الفوز عن دعمهم له. وبحكم عملي في مكانين مختلفين، أحدهما هو الوسط الأكاديمي، والآخر في الخدمة الاجتماعية مع المهاجرين من أصول عربية ومسلمة، أشهد محادثات كثيرة كل يوم، لا أستطيع تصنيفها إلا في إطار الكوميديا السوداء!
زملائي وطلابي الشباب الذين خرج كثر منهم في تظاهرات الاحتجاج على الحرب في غزة، في حالة عميقة من الصدمة بعد هذه النتيجة، ويعتبرون أن الرئيس المقبل يشكّل تهديداً للديموقراطية والفكر المؤسساتي، مضيفين بأن أميركا ليست جاهزة بعد لانتخاب امرأة بسب الذكورية العميقة المترسّخة في المجتمع. بينما يعبّر مهاجرون كثر عن فرحتهم بفوز ترامب الذي سيوقف الحروب ويقفل الحدود وينفخ الدولارات في الجيوب. هؤلاء المهاجرون يزايدون على الأميركيين في أميركيتهم، ويذكرونني ببوق اليمين الفرنسي، إيريك زيمور، المعادي للمهاجرين وهو نفسه من أصل جزائري.
يضع فلسطيني أميركي في مكتبه، علم وخريطة فلسطين، وكوفية وتطريزاً تقليدياً إلى جانب صورة "السيد الرئيس" الجديد، في مشهد يبدو لي قمة في الكاريكاتورية، لكنه طبيعي بالنسبة إليه. فقد نجح ترامب في تقمّص صفة المخلّص في نظر الجميع تقريباً، واستفاد من لحظة حنق تاريخي ليصعد إلى السلطة مجدداً. الجميع يبحث اليوم عن القائد الذي يتحدّى النظام القائم، وقد قدّم ترامب نفسه على أنه روبين هود الغني، الذي يتجسّد فيه الحلم الأميركي، فتماهى معه كثر من الفقراء الذين يرون فيه صورة لما يمكن أن تكون عليه حياتهم.
ترامب هو مسيح القوة المطلقة، لا مسيح التضحية والإيثار: زعيم شعبوي شبيه جداً بزعماء ما قبل الحرب العالمية الثانية، خارج من قمة اليأس ومن دعوات الانتقام، بعد الفشل العميم وسقوط النظام العالمي وبالتالي هو الأكثر تمثيلاً لهذه الحقبة.
أعود إلى مكتبي الصغير. أقفل الباب على نفسي طلباً لبعض الهدوء والسكينة. أحاول الابتعاد عن إدماني الجديد على نشرات الأخبار ومتابعة أماكن القصف في بيروت والمناطق. يتسلّل ملّل عميق إليّ وعدم رغبة في القيام بشيء: أقفل اللابتوب وأقرر المشي قليلاً في الحرم الجامعي. وحده علم فلسطين المرفوع على شقق عديدة يمنحني أملاً بأن شيئاً ما على وشك أن يتغيّر، إيمان هؤلاء الشباب الذي لا يتزحزح بالعدالة والمساواة، رغم الضغوط الكثيرة التي يمارسها عليهم السيستم، مثير جداً للاعجاب.
أودّ أن أطرق باب كل بيت يرفع علم فلسطين، وأشكر أهله واحداً واحداً، باسم المسحوقين تحت الردم، اليائسين من أي رحمة. أرفع رأسي وأواصل السير، شجرة عارية تعانق غصونها سماء الشتاء. لا بد أن يتغيّر شيء! وفي الانتظار سنواصل العمل والإيمان والصبر حتى ترى منطقتنا العربية لوناً آخر، غير أحمر الدم المرعب.