نساء-أطفال-شيوخ: الثالوث المقدّس المخيف

بسمة الخطيب
الجمعة   2024/11/15
"الهمسة" للفنانة السورية نور زنطح
أطفال – نساء – شيوخ. ثالوث الضعفاء المهيمن على مجريات الحروب وتقاريرها، الراسخ في نواة أحداثها، الأكبر هولاً بين أرقامها.

تنصّ القوانين الدولية على حمايتهم من العدوان، وتحضّ الأخلاق البشرية على حفظ أمنهم وسلامتهم، يندّد خطباء المنابر بمستهدِفيهم، يتاجر آخرون بدمائهم، يتسوّل غيرهم بإسمهم، يرتقي المتاجرون بهم إلى طبقة الأثرياء الجدد...

حين يتحوّلون أرقاماً، نقاوم الشعور بالذنب عبر نشر أسمائهم. وإن كانت الأسماء قد اختفت أشلاء مع جثثهم، نخترع لهم أسماء. لكل منهم اسم، لكنه لا يعني مهندسي الحروب والسلام، لا يقيمون له وزناً بل يستعيضون عنه بالأرقام، تلك تزن عنده، لذا يستعيضون بالثالوث المكرّس ليتحوّل إسماً معبّراً ووحيداً.

لم تخل خطبة أو بيان تنديد بالحرب أو إحصائية، من ذاك الثالوث المحافظ غالباً على تراتبيته. أطفال نساء شيوخ، من الأصغر سناً إلى الأكبر. لكنّه ثلاثي غير حصين، رغم كلّ المحاذير الأخلاقية والتشريعات القانونية. فقد تحوّل تحت ذرائع مختلقة، مرمى لأهداف المعتدي. وقد تكرّر ذلك عبر العصور واستفحل مؤخراً، في عصر الإنسان "الأبيض" المتحكّم بالعالم. عقداً بعد آخر، وسجلّات إثر أخرى، يجب أن تدفعنا إلى الاعتراف بتغيير المسلّمات، ومواجهة الخزي البشري: هذه الفئات الأضعف بين المدنيين لم ننجح في حمايتها يوماً.

الأطفال
من البديهيّ تحييد الأطفال، لأنهم لا يحملون السلاح، وليسوا راشدين ليتحمّلوا مسؤولية قرارات حاملي السلاح وأفعالهم، ولأجل البراءة والهشاشة وأمور أخرى. لكن القيادات، فيما تراجع حروبها الفائتة وتقيّم حاضرها، تخشى الأطفالَ أكثر من الكبار، فهؤلاء سيكبرون وسيصبحون مقاومين ومناضلين ومنتقمين، أو لنقُل قد يأخذون بالثأر لأهلهم على الأقل، ولوطنهم على الأشمل. لذا يُعتبر الأطفال هدفاً رئيسياً واستراتيجياً للمتحاربين. يدرك المُعتدَى عليه سياسة العدو هذه غريزياً، قبل أن يكون تكتيكياً، فترتفع نسب الولادات في مناطق الحروب ومخيّمات اللاجئين. يصير الإنجاب فعل مقاومة للموت والإبادة، ردّاً وجودياً على حروب تمّ خوضها تحت عناوين وجودية مضادّة. من يحاربون اليوم ليسوا أبناء هذه اللحظة، علينا أن نعود عقدين في الزمن لنعرف في أي ظروف وُلدوا وترعرعوا وما كان مصير أهلهم ومنازل طفولتهم. من تلك الطفولة، وُلدت الحرب الحالية وأتى المحارب وسيأتي غده.

النساء
تندرج النساء تحت خانة الضعفاء والمجرّدين من السلاح. لكنّهن على مرّ الأزمنة، أنجبن مَن صاروا قادة ومحاربين ودعاة سلام ومجرمي حروب وصقوراً وحمائم.

مستهدفات لذواتهنّ، ولخصوصيتهن البيولوجية والعاطفية، لأجل خصائص الحمل والإنجاب والحضانة والرعاية والتربية، لأنّهن يصنعن الجزء الأكبر من حنين الإنسان لوطنه وأرضه، يصنعنه مع تحضيرهن للقهوة وخبزهنّ ورتق الملابس وإصلاح الأزرار المقطوعة وحتى إصغائهنّ في نهاية نهار منهِك لاستظهارٍ سيُمتحن فيه أطفالهنّ في الصباح التالي...

ليست مهمّة سهلة أن تنجب النساء في الحروب. إنهّن يعرفن أن المخاض قد يكون قاتلاً. تدمير المستشفيات والقضاء على الأدوية والمعدات اللازمة للتوليد أمور يعرفنها، لكنّهن يذهبن إلى مصيرهن بكل وعي وتسليم. غريزة الأمّهات الانتحارية تطفو على كل المحاذير وتعيدهن إلى عصور بعيدة أنجبت خلالها النساء من دون مساعدة غالباً، ومن دون آلة أوكسجين أو مخدّر أو حتى معقّم. والنساء لطالما مُتن أثناء المخاض والنّفاس. في حديث نبوي اعتُبِرن "شهيدات"، مَن تموت في أثناء المخاض أو النفاس تعتبر شهيدة في الإسلام، كمَن يموت في ساحة الدفاع عن عقيدته. وفي المسيحية، يرتقي مفهوم الأمومة إلى القداسة، فقد وُلدت هذه الديانة من تلك اللحظة الإعجازية التي حبلت فيها امرأة عذراء وأنجبت من خاصرتها نبيّاً.

نعم النساء ينجبن المحاربين، وينجبن الأنبياء أيضاً، وقد احتاجت الروايات السموية إلى النساء دائماً لإنجاب الأنبياء بعد مرّة أولى وأخيرة وُلد فيها آدم من غير أمّ. كما احتاجت المعجزات إليهنّ في أكثر من مكان وزمان. عوضاً عن معجزة مريم، هناك معجزات العجائز والعاقرات، كما حال سارة زوجة إبراهيم، وإيشاع زوجة زكريا، اللتين أنجبتا نبيّين (يعقوب ويحيى) رغم العقم والهَرم. إن كان كثيرون لا يؤمنون بالمعجزات إلا أن أرحام النساء كانت تفعل، ويبدو أنها بقيت على إيمانها مع اختلاف مقاربة المعجزة بين الماضي البعيد واليوم.

إن كنتِ امرأة في حرب إبادة، لن يكون سهلاً أن تحاربي أو تصنعي سلاحاً، لكنّك قد تنجبين محاربين وجنوداً وعلماء وحرفيين يصنعون من المتوفّر أسلحة للدفاع عن النفس والهجوم والاستهداف...

إن كنتِ امرأة في ساحة معركة فخياراتك ضيقة، وبينها إنجاب الأطفال. ولأجل هذا تُقتلين، ويبرّر قاتلك قتلك، أنت المجرّدة من سلاح معدني أو الكتروني أو نووي. أنتِ التي لا يمكنك حمل راجمة أو مدفع، تحملين رحماً وعاطفة وقدرة فولاذية على تحمّل آلام المخاض وأيضاً آلام فراق أبنائك. لهذا تبدو وحشية تمزيق أرحام النساء في المجازر مشتركة ومن الممارسات المتكرّرة. هذه الرحم عدو لا يُرحم.

الشيوخ
العجائز مُحيِّرون. لا يمكنهم الإنجاب، ولا خوض الحرب، ولا رفع الدمار، أو حتى إعادة ترميم ما يمكن ترميمه. فلماذا هم في مرمى العدو؟

إنهم في الحقيقة لا يختلفون عن الأطفال والنساء أهمية وخطراً على العدو، فهم ذاكرة الأطفال الذين تنجبهم النساء، وبهم يكتمل الثالوث ويُحكم متانته.

العجائز، ذكوراً وإناثاً، رواة بارعون حتى إن لم يتدرّبوا على القصّ أو يتعمّدوه. كل ما يخرج من ذاكرتهم وقلوبهم سرد مُحكم ومعبّر ومؤثّر... إن احترقت الصور الفوتوغرافية في ألبوم العائلة، إن مُحيت أطلال المنزل والحارة، إن تحطّمت تسجيلات لكلام الراحلين ووعودهم وأغنياتهم، يبقى العجائز يكافحون أمراض الخرف ويؤخرون الاستسلام للنهاية لأجل أن يعوّضوا كل ما سُحِق وأُبيد، ويحكوا تلك الحكايات ويصفوا تلك الصور وتلك المنازل ويوثّقوها. إنهم أخطر مما يوحي ضعف قواهم وهشاشة عظامهم.

قتل الأطفال والنساء والشيوخ لا يحدث بالخطأ، أو المصادفة، وليس لأنهم تواجدوا في المكان والزمان الخاطئين. إنهم المكان والزمان الصحيحان.