ليتني خبّيزة

رانية البوبو
السبت   2024/10/05
هل تقلق البيوت؟ (تجهيز اللبناني ميشال بندلي)
أشعر بالتُخمة. أقتات على قلقي وجبات متتالية من الخوف، وتتناولني مشاعر من كل حدبٍ وصوب قد أكون أنا وجبتَها. أنا الخائفة والمطمئنة، أنا الحزينة والآملة، لوثةُ من المشاعر تنتابني بلا ترتيب أبجدي، أبجدية الخوف. أدخل إلى مطبخي، أريد أن ألتهم كل شيء ولا آكل شيئاً. هكذا هو قلقي، يأتيني على هيئة حَلّة من الأرز أو صحن لبنة مغمور بزيت الزيتون.
في المطبخ، أرى خطاً من النمل يسيل على أرضية المطبخ، يسيل طويلاً، ينقل فتات الخبز. لعله قلق البيوت، النمل قلق البيوت، وهل تقلق البيوت؟

تؤلمني فكرة أن بيتي قلق، فأهرع الى المِكنسة وأبدأ بكنسه علّه يهدأ. راحة البيت كَنسه. أرتّب اماكن الأشياء لعله يستكين. أمسح الغبار عن الأسطح والزوايا، أمسحه كل يوم ليعود بكثافة أكبر في اليوم التالي، وكأنه دمع يتجدد. أتبكي البيوت؟ أُمرّر الخرقة بهدوء أكبر فوق الطاولة، على الكنبة، وكأني أطبطب عليه: معليش، سنكون بخير.

أخرج الى الحديقة، أسقي الورود والأشجار الصغيرة. أراها كلها صفراء، لكنها ليست صفراء. لعله لون قلقها. أتقلق الأشجار؟ أحدّثها كما اعتدتُ دائماً، فأخبرها عن جمالها الذي لا تراه، أُدللها وأناديها بأسماء سرية نعرفها أنا وهي فقط. أبحث بعيني عن الخبيزة، تلك النبتة التي طالما ذممتُ عنادها ونسبتُ إليها كل الصفات البشعة. أين أنتِ؟ الآن أريد ان أُشبهك، أحتاج عِنادك ووقاحة جذورك المنغرزة بإصرار في التراب.

أسقي كل الحديقة، حتى الحشائش الضارة أناديها، أخبرها أن تبقى، أشعر أنها جزء من المشهد. كل الأشياء تصبح عزيزة عند احتمال خسارتها، كل الاشياء تصبح ضرورية ولا غنى عنها.
أشعر بقلق عظيم ينتابني، رغم أني لا أتابع الأخبار. أنا لا أعرف ماذا يجري حولي. كل ما عرفته أن العدو يشن حرباً علينا، وكل ما أراه بيوت تتحول إلى هياكل عظمية وركام. لا أصدق أن بيتاً، بكل عظَمته وتفاصيله وأصواته وروائحه، قد يتحول في ثوانٍ إلى ركام، البيوت تموت أيضاً!

يشتد صوت الطيران فوقي. أركض إلى الداخل، أُلقي نظرة خاطفة، أتأكد أن كل شيء نظيف مرتب. بيتي الجميل. أتأمله لثوانٍ، أشعر وكأن عينَيّ أصبحتا كاميرا تأخذ لقطات للأشياء من حولي. أقرّبها zoom in على أشياء صغيرة، أملأ رئتيَّ بهواء بيتي. عَرَق المنازل رائحتها. أحمل مرطباناً فارغاً بيدي، وأركض به في أرجاء المنزل مفتوحاً، ثم أُغلقه، علّني ألتقط روائح الغرف كله وادخرها فيه. يعلو صوت الطائرة، ويرتجف بيتي، ويرتجف قلبي. بيتي جِلدي الحجري. أركض الى الحديقة لأخفف من خوف أشجارها، لكني لم أعد أرى شيئاً. أغمض سمعي على صوت صاروخ أُطلق فوقي.
***
أصحو في بياض دامس وأصوات من حولي. ماذا حدث؟ أين أنا؟
يخبرني صوتها: لقد قصف منزلك طيرانُ العدو، وأنتِ نَجَوتِ بأعجوبة.
أصحح له كلمتها: إنه بيتي وليس منزلي. بَيْت = بَيْ، مثل أب والتاء للتأكيد.
لا تفهم ما أقول. تجيبني: الحمدالله على السلامة. ثم تذهب.
تتركني وحدي أصارع جملتها: أنتِ نجَوت. هل نجوتُ فعلاً؟
أنا ما زلتُ هناك، أمسح غبار بيتي وأطبطب عليه لأُهدئ قلقه. أسقي وروده، وأخاطب نبتة الخبّيزة، أحاول أن أُقنعها بأن نتبادل الأدوار، فتأخذ هي مكاني وأصبح أنا خبّيزة.