الشهيدة الـ75
في الحرب تختلف المفاهيم ، يختلف الزمن تتفاوت الأيام ويختلف تعداد ساعاتها. ففي بعض الأيام يصبح ساعة، وفي بعضها الآخر يصبح عاماً، وهناك أيام قد تختفي من الأسبوع فلا تقتفي لها أثراً في الذاكرة، لا تتذكر أنك مررت بها أو أنها مرّت بك. في الحرب، قد يكون كل يوم أربعاء، وقد تعيش الأسبوع كله خلال نهار واحد، قد يكون اسمه نهار الإثنين. في الحرب، تتكرر الأيام تكرار نهار واحد بتسميات عديدة.
في الحرب، تُفّرغ الأشياء من معانيها، فلا شيء يشبه نفسه. حتى المرايا تنكر انعكاسها، تُغمض عيونها، فحين أنظر إليها لا أرى وجهي، أرى وجهاً أعرفه أحياناً، أو لا أعرفه، أقيم معه حواراً مُتشكّكاً، علّني أتعرّف عليه أو يتعرف عليّ ... ولا أتعرف عليّ.
في الحرب، تُلغى الأجساد، فلا تعود تعنينا. لا نُحبها ولا نكرهها. في الحرب، نصبح لا شيء، وحده الألم ينُبّهنا بأننا ما زلنا أحياء، وقد نبحث عنه لنتأكد من وجودنا فيما تُصبح أجسادنا ثقلاً علينا. نحملها، نهملها، نجوّعها، نُوسّخها، علّها تتلاشى أو ترحل عناّ. لعلّ الحرب تُصبح أخف وطأة إذا عشناها من دون أجسادنا. لا أعلم ماذا سنكون إن رحلت أجسادنا عنا، لكني أعلم بأن الحرب ستكون أخف وطأة.
في الحرب، تُلغى الحدود. يتمدّد الخوف تحت جلدي ككائن هلامي أشعر بثقله من دون أن أراه، ويتمدد جِلدي لأصير كل الناس. لا تؤلمني قدمي ولا يدي. تؤلمني عين تلك الطفلة وكتف ذلك الشاب. في الحرب، تُلغى الحدود، فلا أصير أنا، بل أصير كل الناس، فأراني هناك يدفنونني مع الشهداء، وأراني هناك ينتشلونني من تحت الركام، وكم أموت من دون أن أموت.
في الحرب، تختلف المفاهيم والتسميات. الحرب زمن الأرقام والتعداد. مئة شهيد، ثلاثمئة مفقود... أرقام تتلألأ، تتباهى، تزمجر، تضحك، تستهزئ. أرقام خبيثة شريرة، لا تعود للجمع والطرح أو لاستخراج المساحات وحساب الزوايا، بل تصبح خوفنا الجديد، كوابيسي في الحرب عبارة عن أرقام تهاجمني، تتبعني، تعذّبني، وتقتلني... أراها تتدلى من السقف، تمدُّ لي لسانها وتخرج من صحن طعامي، تختبئ خلف أذني، تؤرقني.
أُصاب بفوبيا الأرقام في الحرب. أحاول أن أقيم معها سلام تسوية، أريد أن أختار رقمي الذي سيحلّ محل اسمي: الشهيدة رقم كذا. أشرد لأيام، أريد رقماً يرضيني علّني أرضى بموتي، لا أريد رقماً مفرداً، بل رقماً من خانتَين، لا أريد موتاً صغيراً، أريد أن أموت كثيراً.
إن كنتُ لن أعيش خمسة وسبعين عاماً، فأريد أن أكون الشهيدة الخامسة والسبعين. سأرضى، أقسم أني سأرضى. أتذكر أغنية فيروز، أسامينا شو تعبوا أهالينا تلاقوها... فماذا عن أرقامنا؟ ألا يحق لنا أن نختارها بأنفسنا؟ أم أنها لقاتلينا كجزء من انهزامنا؟ وحده المنتصر يعطي المهزوم رقماً. في الحرب، نحن الأعداء ونحن الأخيار، لكني أريد أن أختار رقم هزيمتي... ومَن قال إن الهزيمة في الحرب ليست انتصاراً؟
في الحرب، تُفّرغ الأشياء من معانيها، فلا شيء يشبه نفسه. حتى المرايا تنكر انعكاسها، تُغمض عيونها، فحين أنظر إليها لا أرى وجهي، أرى وجهاً أعرفه أحياناً، أو لا أعرفه، أقيم معه حواراً مُتشكّكاً، علّني أتعرّف عليه أو يتعرف عليّ ... ولا أتعرف عليّ.
في الحرب، تُلغى الأجساد، فلا تعود تعنينا. لا نُحبها ولا نكرهها. في الحرب، نصبح لا شيء، وحده الألم ينُبّهنا بأننا ما زلنا أحياء، وقد نبحث عنه لنتأكد من وجودنا فيما تُصبح أجسادنا ثقلاً علينا. نحملها، نهملها، نجوّعها، نُوسّخها، علّها تتلاشى أو ترحل عناّ. لعلّ الحرب تُصبح أخف وطأة إذا عشناها من دون أجسادنا. لا أعلم ماذا سنكون إن رحلت أجسادنا عنا، لكني أعلم بأن الحرب ستكون أخف وطأة.
في الحرب، تُلغى الحدود. يتمدّد الخوف تحت جلدي ككائن هلامي أشعر بثقله من دون أن أراه، ويتمدد جِلدي لأصير كل الناس. لا تؤلمني قدمي ولا يدي. تؤلمني عين تلك الطفلة وكتف ذلك الشاب. في الحرب، تُلغى الحدود، فلا أصير أنا، بل أصير كل الناس، فأراني هناك يدفنونني مع الشهداء، وأراني هناك ينتشلونني من تحت الركام، وكم أموت من دون أن أموت.
في الحرب، تختلف المفاهيم والتسميات. الحرب زمن الأرقام والتعداد. مئة شهيد، ثلاثمئة مفقود... أرقام تتلألأ، تتباهى، تزمجر، تضحك، تستهزئ. أرقام خبيثة شريرة، لا تعود للجمع والطرح أو لاستخراج المساحات وحساب الزوايا، بل تصبح خوفنا الجديد، كوابيسي في الحرب عبارة عن أرقام تهاجمني، تتبعني، تعذّبني، وتقتلني... أراها تتدلى من السقف، تمدُّ لي لسانها وتخرج من صحن طعامي، تختبئ خلف أذني، تؤرقني.
أُصاب بفوبيا الأرقام في الحرب. أحاول أن أقيم معها سلام تسوية، أريد أن أختار رقمي الذي سيحلّ محل اسمي: الشهيدة رقم كذا. أشرد لأيام، أريد رقماً يرضيني علّني أرضى بموتي، لا أريد رقماً مفرداً، بل رقماً من خانتَين، لا أريد موتاً صغيراً، أريد أن أموت كثيراً.
إن كنتُ لن أعيش خمسة وسبعين عاماً، فأريد أن أكون الشهيدة الخامسة والسبعين. سأرضى، أقسم أني سأرضى. أتذكر أغنية فيروز، أسامينا شو تعبوا أهالينا تلاقوها... فماذا عن أرقامنا؟ ألا يحق لنا أن نختارها بأنفسنا؟ أم أنها لقاتلينا كجزء من انهزامنا؟ وحده المنتصر يعطي المهزوم رقماً. في الحرب، نحن الأعداء ونحن الأخيار، لكني أريد أن أختار رقم هزيمتي... ومَن قال إن الهزيمة في الحرب ليست انتصاراً؟