كيف نتعامل مع الرواية الإسرائيلية؟

فرح فواز
الخميس   2024/10/17
قبل عام تقريباً، وجدنا أنفسنا، نحن الإعلاميين، في خضم إبادة جماعية يرتكبها الاحتلال الاسرائيلي في غزة على الجبهة الميدانية، وإبادة أخرى تُرتكب في بياناته الإعلامية وإعلاناته الرسمية. وبالتزامن مع الذكرى السنوية لهذه الجريمة، عاد جيش الاحتلال الإسرائيلي ليشعل فتيل إبادة جديدة في لبنان، على المستويين المذكورين. 

في خضم هذا الواقع الأليم، نجد أنفسنا، كإعلاميين وصحافيين، حاملين على عاتقنا مسؤولية نقل الأخبار وتغطية الوقائع، في وقت تعتصر قلوبنا ألماً وحسرةً على ما يحدث. نعيش صراعاً يومياً بين أداء واجبنا المهني من جهة، وبين الصمود أمام مشاهد القتل والدمار والتهجير التي تطاول أهلنا وأحبائنا.

لكن هذا الصراع، لا يتوقف عند حدود المشاعر، بل يمتد ليشمل مواجهة السردية الإعلامية التي يروج لها العدو الإسرائيلي. نحن على جبهة إعلامية، حيث نحاول المحافظة على المهنية الصحافية وأخلاقيات المهنة في ظل مواجهة نارية مع روايات العدو الكاذبة، والتي يسعى من خلالها إلى تبرير جرائمه بحق المدنيين العزّل.

وأنتج هذا الصراع إشكالية أخرى: كيف ينبغي لنا التعامل مع الأخبار والروايات التي ينشرها العدو؟ 

الواقع أن هذه المسألة تمثل محوراً أساسياً في نقاش أخلاقيات المهنة الصحافية، وكذلك في مسؤوليتنا تجاه الحقيقة والعدالة. 

عندما يقوم العدو بنشر أخبار تتحدث عن قصفه لمدرسة أو منزل سكني بحجة وجود مركز للقيادة أو منصات صواريخ، سيكون الإعلام مضطراً للتعامل مع إعلان مشابه. البعض يجادل بأن من واجب الصحافي نقل هذه الأخبار بوصفها معلومات معلنة... لكن سؤالاً يطرح نفسه: هل تساهم هذه الممارسات بشكل غير مباشر في إضفاء شرعية على رواياته الكاذبة، تلك التي اختبرناها في غزة أولاً، ثم في لبنان؟.. 

ومناقشة هذه القضية المهنية والأخلاقية، يفترض أن تتطلب وعياً تاماً بحقيقة العدو الذي نتعامل معه. نحن أمام عدو إرهابي لا يحترم أي قانون دولي ولا يمتلك ذرة من الإنسانية، بالتالي فإن الآلية المهنية لنقل رواياته، من دون الترويج لها، تمثل النقاش الأجدى، منعاً للمشاركة في التضليل الذي ظهر في تجارب وإعلانات سابقة، وكشفت زيفه وكذبه مراراً وتكراراً، وخصوصاً انكشاف كذبه في ما يتعلق بأخبار الأطفال الرضّع، وكذلك حينما لفّق روايات عن حوادث اغتصاب مزعومة قام بها مقاتلو "حماس" أو الفصائل الفلسطينية.

والنقاش هنا، لا يعني تجاهل رواية العدو تماماً، منعاً للغرق في تغطية من جهة واحدة، ستكون مجتزأة أيضاً، ذلك أن الاجتزاء في مقاصده، هو تضليل.. لكن المقترحات المتصلة بالنشر، تستدعي التعامل بحذر شديد وبتحليل دقيق. 

من تلك المقترحات التي تُطبق في وسائل إعلام لا تتبنى الرواية الاسرائيلية ولا تنحاز إليها، تصر على أهمية تجنب أي صياغة قد تبدو وكأنها تبنٍّ لروايات العدو. بذلك، يمكن وصفها بـ"المزاعم" و"الادعاءات"، وتقدم مقابلها، الرواية المقابلة، Double source، التي يمكن أن تفند تلك الأكاذيب، وتفكك مغزى الرواية الاسرائيلية. ويمكن أن تتم عبر نقل الخبر المقابل، أو عبر ضيوف يشاركون بالمعلومات والتحليل. 

بهذه الطريقة، يكون الإعلام قد قدم تغطية متوازنة تعكس المهنية، وتكشف الحقيقة، وتواجه بروباغاندا العدو.

غير أن المعضلة في الوقت الراهن، لا تتصل بوسائل الاعلام التي تلتزم التغطية الموضوعية والإضاءة على المفاهيم الحقوقية والقانون الدولي والتشريعات الملزمة ومواثيق الشرف، بمعزل عن مدى التزامها بالحيادية (وهي صعبة في ظل الاصطفافات).. تتجسد المعضلة في النقل عن ألسنةٍ تُعتبر أبواقاً إسرائيلية، وقد شوهد في حربَي غزة ولبنان مدى تأثيرها عندما يتم نقل المعلومات عنها. وقد ساهم صحافيون عرب ومؤثرون في وسائل التواصل الاجتماعي، في ترويج الرواية الإسرائيلية. 

في النهاية، نجد أن مهنتنا الإعلامية ليست مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل هي جبهة حقيقية في مواجهة حرب المعلومات التي تشنها إسرائيل، ليس فقط ضد لبنان وفلسطين، بل ضد الشعوب العربية جمعاء. 

في مواجهة عدو يمتلك إمبراطورية إعلامية واسعة، مدعومة بجبهات إعلامية غربية، ليس هناك أفضل من الاصطفاف مع الحقيقة، والالتزام بالشفافية والموضوعية، ومكافحة التضليل عبر التحقق وتفنيد المزاعم وتفكيك المحتويات.