بورتريه امرأة غير مرئيّة

بتول يزبك
الثلاثاء   2024/10/15
(اللوحة للفنان اللبناني منصور الهبر)
أطوف الشوارع البيروتيّة، من دون وجهةٍ موعودة. شيئًا فشيئًا، أقترب من الاقتناع باستحالة المهمة الّتي نذرت نفسي لها: أن أجد بيتًا لي، وأن أكتب نصًّا عني.
لم أجد بيتاً. لا بيت لي في بيروت. هذا واقع. تركلني بيروت للمرّة الألف.

أجلس متثاقلةً على كرسيٍّ خشبيّ في أحد المقاهي المفتتحة حديثاً في الأشرفيّة. في الخلفية، صوت إيلا فيتزجيرالد يطغى على صوت المُسيّرة الّتي تُحلق فوق رؤوسنا.

عندما هممت بالكتابة، خطر لي أن النصّ بحدّ ذاته سيحضر تلقائيّاً، بالطبع. كل ظروف النصّ حاضرة، فلا بُدّ أن يحضر. لكن الكلمات تُقبِل بتأنٍّ شديد. أخالني مفجوعة.. لكن لا، مستحيل!  يُمكن دائمًا قول شيء، أحسّ بحماسة الكتابة الطفوليّة تخترق عقلي، تأخذني الحماسة صوب الفكرة. ها أنا اكتب. أطفو على سطح اللذة، "لذّة النّصّ"، عند هذا الوجود الذي يعمّ كل شيء من دون أن يتموضع في شيء.

سأكتب:
ماذا لو استمعت طوال الوقت إلى تشيت بايكر؟ أصمّ أذنيّ عن صوت المُسيّرة، أغمض عينيّ عن مشهد بيتي المُحترق في الضاحيّة، وأقبض على قلبي المُرتجف إثر كل خبرٍ عن غارةٍ في البقاع حيث يقطن أهلي. وأترك الأزرق الباهت ينساب ببطءٍ إلى أذنيّ وعينيّ وقلبي.

لتشيت بايكر أُغنية بعنوان "Almost Blue"، لم أعرف كيف يُمكن أن أُترجم هاتين الكلمتين بالعربيّة. "أزرق تقريباً"؟ هل في العربيّة ما يشرح الشعور بالمرارة كما غنّاها تشيت؟ هل في العربيّة ما يُترجم اليأس الذي يأتي مع الشعور بالخسارة. أنا أعرف الخسارة جيدًا، كما تشيت. هناك شيء في تكراره لكلمة Almost يُدمي قلبي، شعورٌ بالسّعادة الّتي تبدو بعيدة المنال. لدى تشيت القدرة على إذابة الخسارة لتصبح ألمًا سائلًا، حزنًا شفيفًا.

هناك حزنٌ شفيف يتسرب من جوفي إلى عينيّ. الحزن يُغلّف عينيّ ككسوةٍ ثقيلة تحول دون أن أرى الأشياء إلّا بلونٍ أزرق باهت، وأشعر مع ذلك، بشاعريّةٍ ما. لذلك أسأل نفسي مُجدّدًا، ماذا لو استمعت طوال الوقت إلى تشيت بايكر؟ لو انبلج من الألم في قلبي ضوءٌ عظيم يخرج من حافة صدري ليتّسع على امتداد العالم؟

أتأمل الواجهة الزجاجيّة للمقهى، وأحسب نفسي مؤدية دور في فيلمٍ فرنسيّ بطيء – لغودار تحديدًا، لا حبكة فعليّة فيه. السّابلة والشحاذون والنادل يُشاهدون اللقطة الّتي أظهر فيها مُحدّجةً الكون بعينين مغمضتَين على شيءٍ من الأمل القَلِق.

يرمقني النادل الذي انتظر أن أُنهي كتابة الجملة الأخيرة بنفاد صبر. نتبادل نظرةً واحدة. أظنه لمح الكسوة الّتي تُغلف عينيّ، فلانت ملامحه. بتسم لي منهكًا، أبادله ابتسامة أكثر إنهاكًا. ابتسامتان مُرهقتان فيهما شيءٌ من التواطؤ. نتواطأ على مشاركة الإرهاق الباهت. يسألني: "ماذا تُريدين؟"، أقول له: "ما يجعلني أستيقظ". يناولني فنجان إسبريسو ويمضي بسرعةٍ، يمضي بسرعةٍ لعينة قبل أن أبادره بالشكر.

أعجز عن إكمال نصّي. أشرب قهوتي على عجل، وأخرج مسرعةً من المقهى المُكيّف.. أُعدّل غُرّتي، وأُمسّد فستاني الأبيض الموشى بربطاتٍ سوداء أنيقة. يقول لي صديقي إنّ إطلالتي اليوم أشبه بممثلات أفلام غودار. ابتسم بحماسة للمرة الأولى منذ أسابيع، شاعرةً أن الكون تواطأ معي اليوم، لتصميم سينوغرافيا سورياليّة: مقهى مُكيّف، أصوات غاراتٍ جويّة مباغتة تُنافس صوت فيتزجيرالد، وأنا – كفافكويّة بدرجةٍ مستحيلة أخرى – تتهادى على درب الحياة. لا يقين، لا بيت، لا عائلة، لا مدينة. أُصارع المُسيّرة وخساراتي وفقدي، واللون الأزرق الباهت الذي ينخر عينيّ، والتاريخ العالق في دوامةٍ سيزيفيّة ملحميّة، بفستانٍ أبيض قصير موشى بربطاتٍ سوداء أنيقة. كان الفيلم هذا ليحصد إعجاب مُحبي سينما النكبات... في كونٍ موازٍ.

على الرصيف، بانتظار سيارة أجرة، أرمق أولئك الذين فقدوا كل شيءٍ، يفترشون الأرض. في صدري صرخة حيوانٍ مجروح: "أنا أيضًا خسرت كل شيء لكني بفستانٍ أبيض بربطاتٍ سوداء أنيقة".

أصل إلى الأريكة التي في بيتٍ ليس لي، لأُكمل الكتابة. سأكتب:
أؤمن بأن الحزن الشفيف في قلبي موجود كالله. وأرى اليقين، يبتعد. لكني ما زلت أجد بعض الأمور مُدهشة، حتّى وإن أصبحت عادةً تتكرّر كل يوم: شعوري بحذائي يقرع الرصيف، شعوري برئتيّ تتسعان لتبتلعا الهواء المُغبّر، شعوري عندما أرمق عينيّ أحدهم لأفكك شيفرة روحه وما يمور في قلبه، شعوري بملمس وبر قطة الشارع. اللحظات النادرة للوئام مع العالم، الصراخ الجنونيّ المكبوت أعلى الحلق: أنا حيّ، أنا حيّة.

حسناً، لم أجد لي بيتاً. لم أكتب نصًّا بديعًا يُذيب ألمي في نصٍّ سائل. لم أسمع "أحبك" اليوم. لم استرجع بيتي في الضاحية. لم أرَ أهلي منذ قرابة الشهر، رغم أنّهم يبعدون عني عشرات الكيلومتراتن لا أكثر. لم أذق طعم النوم منذ أيام.

لكن، لا يُهم. فستاني الأبيض بربطاتٍ سوداء أنيقة لم يتسخ بعد، رغم القذارة الّتي تطمرني.
لا يُهم، فأنا منذ أسابيع أُمعن النظر في المدينة، في قلبي المطمور بشعاعٍ من الأزرق الباهت، وفي الأوراق الصُفر المتكسرة على الرصيف. وأتذكر النادل وحرجه، وفي المرة المقبلة حينما أطالبه بما يبقيني مستيقظة، سيجيبني بلا حرج: نامي. 

___________________

(*) العنوان مُستعار من أحد العناوين الفرعيّة في رواية بول أوستر "اختراع العزلة".