النظام السوري يحل أزمة الجوع: دعوة إلى العشاء!
تتجول الإعلامية السورية، دعاء جركس، بإطلالتها المتكلفة، في الأسواق المحلية الشعبية في دمشق، حيث تلتقي الفقراء والمهمشين فجأة بوضع المايكروفون أمام وجوههم لتبدأ جلسة التحقيق عن طعامهم المفضل الذي بات تذوقه حلماً بعيد المنال بسبب الفجوة الهائلة بين متوسط الدخل الشهري ومعدل النفقات، في وقت تقدر فيه الأمم المتحدة أن نحو 90% من سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر، فيما يعاني أكثر من 60% من السكان من انعدام الأمن الغذائي.
و"جلسة التحقيق" ي التوصيف المثالي لما تقوم به جركس التي تطرح برنامجها "مع دعاء" عبر صحيفة "الوطن" شبه الرسمية على أنه "برنامج خيري تكافلي"، إذ يغيب الودّ واللطف أمام الفجاجة والاستحقار للمعاناة اليومية للناس، فيما يُلمح الخوف في عيون "الضيوف" عندما تتم محاصرتهم والضغط عليهم لعرض بؤسهم اليومي أمام الكاميرا، حتى عندما لا يريدون المشاركة في البرنامج، لدرجة أن البعض منهم أجهش بالبكاء مع تكرار الأسئلة المزعجة التي تضع اللوم على الأفراد في فقرهم المقدع وكأنه نتيجة خيار يعود إلى الكسل.
"أديش صرلك ما أكلت لحمة" و"على شو حابب نعزمك اليوم"، تكرر المذيعة في كل حلقة، متفاجئة من الأسعار ومن أسماء المنتجات التي لا تعرفها. وفي تصريحاتها الإعلامية يظهر احتقارها لمن تلتقيهم في عملها، حيث تضطر للنزول إلى الشوارع الشعبية للقاء هذه "النماذج" وليس إلى المولات والمراكز التجارية الفخمة، من أجل رصد الأسعار. وبهذه النزعة الفوقية، يتماثل ما تقدمه جركس مع ما تمارسه السلطة في سياساتها الاقتصادية تماماً، لأن النتيجة التي تريد أن توصلها هي أن كل مشاكل البلاد ليست إلا سوى مسائل فردية، يتم حلها بجهود بسيطة مثل دعوة إلى العشاء!
والحال أن البرنامج يمثل نقلة في التعامل الإعلامي الرسمي مع موضوع الفقر وانهيار الاقتصاد، من حيز المبادرات الإعلامية "الشخصية" التي كان يقوم بها إعلاميون مثل مراسل التلفزيون السوري شادي حلوة في برنامجه الشخصي في "يوتيوب" "الناس لبعضا"، إلى وسائل الإعلام المحسوبة على السلطة. وذلك بموازاة تزايد السخط الشعبي بسبب الحالة الاقتصادية وانعدام الخدمات، مع انزلاق ملايين نحو الجوع، وهو الخط الذي كان النظام السوري يحاول دائماً الحفاظ عليه في إداراته لموضوع الفقر طوال عقود.
وفيما كان الانهيار الاقتصادي حاضراً لأكثر من عقد في البلاد، تمت مواجهته بالإنكار الرسمي، سواء من قبل المسؤولين كوزير المالية السابق مأمون حمدان الذي قال العام 2017 أمام مجلس الشعب أن لا أحد جائعاً في سوريا، إلى المستشارة الرئاسية بثينة شعبان التي قالت العام 2020 أن انهيار سعر صرف الدولار وهمي، وأن الاقتصاد السوري أفضل بـ50 مرة اليوم مما كان عليه العام 2011، والمستشارة الأخرى لونا الشبل التي دعت السوريين للصمود، وغيرهم، مع خطاب إعلامي موازي يقول أن الفقراء الحقيقيين لا ينتشرون في الشوارع بل يخفون فقرهم في بيوتهم، حسب تعبير الإعلامية طباع قبل سنوات.
لكن اليوم، يتم الاعتراف بذلك الانهيار ويُصدّر في الشاشات وعبر المؤثرين الداعمين للنظام مثل الممثل باسم ياخور، مع تفسيره لمؤامرة من نوع جديد بعد "انتصار النظام" على المؤامرة الكونية السابقة (أي ثورة 2011). ويصبح الفقر بالتالي مشهداً من مشاهد الحصار الغربي ومن نتائج الحرب في أوكرانيا ليس بسبب غزو الحلفاء في الكرملين طبعاً بل بسبب دعم المجتمع الدولي لكييف بهدف "إطالة النزاع" وغيرها، من التبريرات التي تتناقض مع الواقع المحلي الذي يحال فيه الفقر إلى السياسات التي اتبعها النظام طوال العقد الماضي.
بالطبع لا تظهر جركس كصحافية استقصائية تحارب الشر وتدافع عن المظلومين من أجل كشف الحقيقة ووضع الأمور في نصابها، إلا عندما تتحدث مع الباعة للحصول على مستلزمات طبخاتها بأرخص الأسعار، وفي تلك اللحظات يُحاصَر الباعة في محلاتهم الصغيرة ويُجبَرون على البيع "للكاميرا" بأسعار أرخص من السعر الحقيقي في السوق، فيما يصدّر البرنامج لمحة غير دقيقة على الإطلاق عن الأسعار، والهدف هو تلميع صورة الحكومة أمام الانتقادات الموجهة لها برعاية "الفساد"، ووضع المشكلة، في حال وجودها، في إطار تجاوزات فردية لا يقوم بها حتى التجار الكبار ممن يوصفون محلياً بـ"دواعش الداخل" و"تجار الأزمة"، بل بأفراد عاديين يستغلون أوجاع أفراد عاديين مثلهم.
بالتالي، يضع البرنامج بشكل غير مباشر، السوريين في فئات متصارعة ضد بعضهم البعض، مع تبرئة الدولة السورية وأجهزتها من أي مشاكل حالية ولاحقة وسابقة، بموازاة تصدير صورة سامة تفيد بأن الشعب السوري يحمل صفات التخلف والهمجية والانتهازية والسوء والشر والطمع. والأكثر من ذلك، إن تناول موضوع الفقر بناء على البرنامج، ينطلق من حالة رومانسية تمجد الفقر الذي يصبح مرادفاً للأخلاق والوطنية، بدلاً من كونه حالة يسعى الجميع في أي زمان ومكان لتجاوزها نحو واقع أفضل.
هذه التوصيفات كلها من أدبيات "الإعلام الوطني"، حيث تبث الشاشات الرسمية بانتظام برامج من تلك النوعية، بشكل تزايد بعد العام 2011، بما في ذلك ملاحقة الإعلامية ربى الحجلي لسائقي سيارات الأجرة الفقراء في دمشق العام 2022، بشكل متخف من أجل فضح فسادهم ومخالفتهم للتسعيرة الرسمية. المختلف فقط في ما تقوم به جركس، هو تقديم ذلك الخطاب السياسي ضمن إطار "تكافلي" على أنه "فعل خير". ويصبح ذلك بالتحديد نقطة ارتكاز للرد على أي انتقاد يوجه للبرنامج، كما يظهر في تصريحاتها الصحافية مؤخراً.
لكن "فعل الخير" وتقديم التبرعات ونشر التكافل الاجتماعي ليست من وظائف الإعلام، خصوصاً إن كان ذلك الإعلام مجرد أداة من أدوات السلطة ولا يقوم بأي من واجباته الحقيقية. وبالتالي فإن هذه النوعية من المحتوى الإعلامي "الخيري" تتخطى الانحطاط الأخلاقي بمراحل لأنها تستغل أوجاع الناس وحاجاتهم الأساسية وقدرتهم على البقاء، من أجل إيصال رسائل سياسية ومغلوطة، تفيد بوضوح أن الدولة السورية لن تتدخل لحماية مواطنيها من الفقر المدقع، مع رمي تلك المسؤولية على رجال الأعمال والمتبرعين والأفراد أنفسهم.
وإن كانت المبادرات الخيرية شائعة في مواقع التواصل، على غرار ما يقدمه اليوتيوبر "غيث الإماراتي"، فإن ذلك مبرر إلى حد ما لأنه يأتي من قبل أفراد ناشطين في مواقع التواصل، وليس من صحافيين يفترض أنهم محترفون. وبغض النظر، فإن الفارق بين التجربتين لا يكمن فقط في كمية المساعدة المالية التي تقدم، بل في حقيقة أن المبادرات العربية المماثلة تركز على إيجاد عمل للفقراء والحد من البطالة وغيرها من حلول تتعدى المساعدة اللحظية نحو المساعدة طويلة الأمد، قبل أن تتدخل الحكومات نفسها من أجل دعم تلك المبادرات وتعزيزها.