...ثم علمتُ أن جدتي امتلكَت غزالاً

نور السيد
الأحد   2023/08/20
تجهيز بعنوان "اجتياح" للفنان التركي ياغور شاليش
في حديثٍ عابر، أفاد بأن جدتي كانت تمتلك غزالاً، دُهشت لنوع الحيوان الأليف، لكني سرعان ما ألفتُ الخبر، فلجدتي أخلاق أرستقراطية يليق بها تبنّي الغزلان.

أمطرتُ عمتي بوابلٍ من الأسئلة، لم تسفر سوى الشحيح من التفاصيل بين جَنبات الحديث. قالت العمة بأن صديقاً لوالدها من البدو أهداها إيّاه، فتعلقتْ به.

لازمَ "أورلي" (ومَن يخبرني عن معنى اسمه؟)، جدّتي، كظلها. مهما روى الخيال من تفاصيل، إلا أنها ستبقى عاقراً لا تُثمر ما لم تحكِ الجدّة وتستفيض بالشرح مع حركات الأيدي، وما تُوارِ العبارات كعادتها، لتجعل من المتعة حبلاً يشدّ السائل إلى حيث الجبّ، فينتهي الحديث وفي يده دلو من الأجوبة تمكّنه من الاحتفاء لأنه عثر على ضالته من دون مساعدة.

رحلتْ جدتي من دون أن تخبرني إن قطفتْ له من الأعشاب نوافلها، أم عجنت لفاهه اللوز والسكّر؟ هل أجرتْ بين أصابعها السواقي لتروي عطشه ببضع لعقات؟ وكيف كان يلعب؟ يلحق بها يشمّ ضفائرها؟ تُراه كم مرةً أسندها لينقذها من سقوطٍ محتّم؟ وكم من دمعةٍ لثم فوق وجنتي الطفلة التائهة؟ حزنتُ بأن خبراً كهذا أفلتْ من أحاديثنا. وما معنى كل ذكرياتي معها من دون أن تخبرني عن لون غزالها، وكم من الأسرار حفظ لها، هل بكى مطوّلاً عند عتبة بابها الجديد عندما أخبروها أنها كبرت، وألبسوها الطرحة؟

انتهى حديثي والعمّة بالفرضيات، وأكملتُه أنا بفرضياتٍ جديدة أملتها عليّ نفسي التي اختبرتْ جدّة ليست ككل الجدات. نعم كلنا نردّد هذا، لكنها نادرة كغزالٍ منحه بدويّ لطفلة!

لم تكن جدتي تغني لنا أغاني الجدّات، لم تحزر معنا نحن الصغار أيّ أُحجية، كما لم تُجد لعب الباصرة كأقرانها، ولا حتى حكاياتهن المثيرة ليكملها خيالنا نسيجاً نختتمه بدهشة. لكنها استعاضت عنها بحكاياتٍ سخيّة عن الفقد.

حكاية خالها، الشاب المغوار المتمرّد على ظلم البدو الذين ما فتئوا يغزون كروم الضيعة من دون حولٍ من أهلها العزّل. وفي أحد الصباحات دخلت ثلّة منهم كرمه، أمروه بتعالٍ أن يجني محصول العنب ويقدمه بلا تلكؤ، فما كان منه إلا أن رفض وصيّره عنفوانه لعَينٍ قاومت مخرزها، فاجتمع أهل القرية ليشهدوا ما ستحفره الذاكرة في أجيالهم ممن لم يُخلقوا بعد، علّ الذكرى تنفع فلا يتكرر عصيان لقهرٍ مُسلَّم به منذ عقود. ضُرب الخال ضرباً فائضاً، ثم قُتل بأبشع صورة كرّرتها جدتي إلى يوم رحلت، بُطح أرضاً وقد أُسندت خصيتاه بحجر ليضربهما حجر آخر بضربةٍ واحدةً كانت كفيلة بقطع نسل العصيان، وجرّ القطيع إلى زريبة الطاعة.

تُكمل الجدة الحديث من دون لون وبنبرةٍ تجرّدت من أي شعور، وتهمس بكلماتٍ متثاقلة غير مكترثه ببقية الحكاية بعد الحبكة التي تخطّت عتبة الألم. تقول بأن الزمن أذِن لمرحلةٍ جديدة، كفْتْ هجمات البدو بفضل ظلمٍ بدّل نكهته آغا استوطن وسط القرية وجعل في دارته بئراً في منتصفه سيفين متصالبين. يسأل الغريب المتنكر ما هذه التي في يدي؟ فإن أجابه بصلة بكسر الباء، فهو من الغزاة البدو، وإلى البئر وبئس المصير. لم تأبه جدتي للفائدة العامة التي أسبغها خالها وافتدى بخصيتيه وشبابه قوت قرية بكاملها. لم تكن جدتي ثوريّة بطبعها؛ ولم تكن مسالمة حدّ الخنوع، لكنها لم ترضَ يوماً بأن تسقط ضحيّة إنسية أو حتى حيوانية. لا تؤمن جدتي بالقضايا، لطالما آمنت بحلول عقلانية بعيدة من أي تطرف لفكّ أي نزاع.

لربما إيمانها ذاك، جعل للحيرة طريقاً إلى قلبها الذي اعتصر ألماً خلال الأحداث السورية. عاصرت جدتي بدايتها ورحلت في منتصفها، فعلمت بالشباب الذين اُعتقلوا واستشهدوا، وبالذين ركبوا البحر، لكنها لم تجد لحيرتها مرفأً: "ليش كل هاد يا ستي؟ مشان إيش؟ عشنا حرب وشفنا ضرب بس متل هيك ما صار على زماني".

كانت مهمتي للإجابة تفوق صعوبة الأسئلة، ماذا أخبرها؟ كروية الأرض التي حدثتُها عنها ذات صيف، أهون عليها من هكذا حديث. استغربتْ فطرتها النقية آنذاك وسألتْ: "شلون هيك، طيب اللي بكون بطرف الدنيا ما بيوقع؟"، ليأتي جوابي نصف المُقنِع بأن الأرض كمغناطيس إبر الخياطة، يجذب ولا يفرّط. صدّقت جدتي العلم كما كانت على الدوام؛ بيد أن الشرود رافقها في ذلك اليوم، وجمح بالتفكير الصامت… خطر في بالي أن أجيبها بأننا صرنا في طرف الدنيا، وقعنا ولم ينتشلنا أحد يا ستي! لكني أشفقت على عقلها.

فقدتْ جدتي بيتها في نزوحٍ مؤقت، تركت كنزات الصوف القديمة تنكث نسجها وتجعل منها كباكيب تصلح لإعادة التدوير، وملابس باليه يعينها عليها مقصها الوفي فتتحول لبساطٍ ذي خطوط متباينة. وتركت الفيء الذي كانت تلحق به تجالسه كرفيقة وفيّة لتقشّر حبات الثوم الصغيرات اللواتي لا يصبر عليهن سوى الجدات الحكيمات. تركت صيصانها في علبة الكرتون إلى جانب المدفأة، والجدي الصغير ذا اللقوة الذي نبذته أمه فأرضعته هي "ببرونة" ابتاعتها خصيصاً له. هجرت أياديها طاحونة الحجر البازلتي يتخذه العنكبوت لبيته الواهن، لا حفنات حنطة ولا كشك خام تزعجه. بجملة واحدة تستجدي كل عابر سبيل:"خدوني على بيتي شو مقعدني هون ببيوت العالم!"

اختبرت جدتي الفقد للمرة الثانية، حين سقط جنينها مع البشرة الحمراء وأصابع صغيرة وعينين تشبهان الحبة السوداء. فقد قدرته على التشبث برحمها، أرعبها أثناء الحصاد، فكتمت ما اختبرتْ، إلى أن غيبها الوعي عن إمّانها(ساقية السنابل الخاصة بها التي تحصد)، تم نقلها إلى بيتها، وظلت تصف ولدها الجميل وتحسب عمره إلى أن رحلت.

أما المرة الثالثة، فكانت الأقسى، ربما لأني شهدتها، كنت الأقرب إليها. انتخبتني العائلة لأعلمها بأن جدي قد فارقنا، صلّت جدتي الفجر، واقتربتُ لأخبرها. اعترضت على رحيله، فكانت ترى بأنها الأحقّ بصهوة الموت، هي المتعبة، هي المريضة والموت لها؛ أخطأها هذه المرة.

ظلّت جدتي روزنامة العائلة حتى لحظاتها الأخيرة، رغم أنها قاربت المئة، تُهنّئ بعيد ميلاد حفيدها الذي وُلد في يوم سفر ابنها الأصغر، وفلان نجح في الثانوية، تزامن نجاحه مع ولادة الماعز السوداء التي أنجبت جديَين فارق أحدهما الحياة. تُبهر بتفاصيل ومنمنمات يسأل الجميع أين تخزّنها!

كانت جدتي عالمة بالأنساب، تسرد الكثير عن الأقارب من جهتي الأم والأب، لكل فردٍ تصادفه، كما كانت النسوية الشرسة التي لا تصافح كل رجل متعدّد الزوجات، ولا تصفح مهما علت محبته، ومهما قدّم من أعذار.

أهدتني سوارها الفضي وحين سألتها القرنفلة (حلقة تعلق على جانب الأنف)، طلبت ثقب أنفي لتضمن مرافقتي حليتها أو أثرها إلى الأبد.

نبتت لي شامة مكان الأمنية، لطالما تمنيت القرنفلة وتخيلتها تتدلى من أنفي، وها أنا كلّما تحسّستُ شامتي أو وقفتُ للمرآة، أذكر ستي فاطمة.