ثمانية وستون...رمز اللانهاية الجديد

نجلاء أبومرعي
الثلاثاء   2023/08/15
"قِيم شخصية" لوحة رينيه ماغريت
"لا سلامَ، قال الربُّ للأشرار"، سفر إشعياء 22:48، ومنها انتقى الناطقون بالإنكليزية استخدام معناها للدلالة على اضطرارهم لمواصلة العمل رغم شعورهم الهائل بالتعب.
"No peace for the wicked"، لا راحة للمتعبين...

تحضرني هذه العبارة، وأنا أتابع الأخبار عن التحركات الناشطة في عدد من الدول الأوروبية، لمعارضة رفع سن التقاعد وما يتصل بذلك من إجراءات تُنقِص من مدخرات المرء، من راتبه التقاعدي في نهاية مسيرة عمله. وفيما انقضَّت عليَّ ذاكرتي باستحضار "الزودة، الفروقات، الراتب التقاعدي"، وهي مفردات يعرفها جيدًا أبناء وبنات أساتذة التعليم الرسمي بشكل خاص، إذ تفتّح وعيهم عليها حتى قبل بدئهم مرحلة المخاتلة أمام المرآة، باغتني الإشعار بتلقي دعوة مرسلة بشكل آلي، لتفقد بيانات حصّالة التقاعد خلال الأعوام الستة الماضية، "القجة".

لعلها مصادفة، أو إجراء روتيني نتيجة الترتيبات التي أنجزها حاليًا فيما أُقبل على مرحلة جديدة، أنهي فيها تجربة مهنية وأخرج من بابها للوقوف على عتبة الاحتمالات العديدة... عند مفترق الطرق، تشير اللافتات إلى اتجاهات شتى، بعضها يغريني، وبعضها أخشاه، وبعضها الآخر لم يعد ضمن حساباتي أصلًا...

وفيما يدور رأسي حولها، أنحاز لتوجيه هذا الدوران نحو فتح حساب الحصالة واستعراض المعلومات المسجلة. هدفي محدد، قراءة الرقم الحاصل في "القجة"، وتطمين النفس بإضافة هذا البند إلى لائحة المحقق من العمل السابق... إنها وقفتي مع حساب البيدر.

بعدما أزهقت نصف ساعة للتمكن من الدخول إلى حسابي، محاولة تذكر تفاصيل كلمة السر، متجاوزة الانزلاق إلى فكرة أني قد لا أصمد كثيرًا أمام أمراض الذاكرة، أخيرًا أصبحت داخل عالم مستقبلي عنوانه "الأمان التقاعدي".

أنوي زيارة خاطفة، على غرار زيارات اللياقات الاجتماعية للاطمئنان على صحة مريض، أو تفقد عائد من السفر. هذه الزيارات التي غالبًا ما نستعيض عنها برسالة أو تسجيل صوتي عبر "واتساب". لن أتجول كثيرًا، لن أبني علاقة مع "البروفايل"، لا أحتاج إلى معلومات وفيرة. تكمن غايتي في تسجيل معلومة بسيطة، لكنها عظيمة في قدرتها على بث الطمأنينة في النفس.

أريد الحفر في مكان ما في ذهني، أن لي مدخرًا ما، ولو كان غير مرئي الآن، لكنه موجود. أُهامِسُ عقلي بأن هذا مهم في سياق التدريب الذاتي، لتصليب عود ملمح من ملامح النضوج والمسؤولية، وهو الاعتناء بمواردك المالية الحالية والمستقبلية.

ففي كومة القش التي تتعاظم في رأسنا، من توجس من المجهول، من مهابة الغرق في أحلام وردية، نسعى إلى معاندة الرغبة في التململ بين أغطية الخطوات غير المحسوبة، نبحث عن مَواطن الثقة... ولست استثناء، أحاول الإمساك بيدي، وأشدُّ عليها بيد امرأة اكتسبت شيئًا من تجربة السنوات الماضية، ولم تعد تلك التي أنهت تجربة عمرها عشر سنوات ولم تلتفت إلى حساب حصالتها حتى اللحظة...

أجبرني رقم تصدّر الصفحة، على استعادة تركيزي من الاستغراق في التحليل النفسي لسبر خلفيات ومكامن التغافل هذا. كاد أن يرميني من على رأس جبل إلى وادٍ لا قعر له.

ثمانية وستون. كل السلاسل الحديدية في الأرض كبلتني في تلك اللحظة. متى أستريح؟
في الثامنة والستين من العُمر... وهل أكون قد نجوت من الألزهايمر إلى ذلك الحين؟
ثمانية وستون، إنه رمز اللانهاية الجديد.

هو العقد الاجتماعي القهري الذي يفرضه "السيستم"، جراء قلة المواليد وامتداد عمر العاملين بصحة جيدة. ثمانية وستون، الوسيلة البغيضة التي تسعى من خلالها الدولة لتوفير مصاريف نظام الضمان الاجتماعي وتعزيز الإنتاجية باستمرار عمل من هم فوق الخامسة والستين.

أنتم القائلون بأن الستين هي الأربعون الجديدة، لملموا عبارتكم وانصرفوا إلى إعداد العدة للسبعين أو للثمانين كي تنعموا بتهيؤاتكم عن الراحة والانعتاق إلى التمتع بالحياة. يقول "السيستم" لي ولكم: "أنتم مغفلون".

لطالما تخيلت نفسي ذلك "الهامستر" الضئيل، الذي توهم قدرته على الاستهلال بالهرولة والشروع بالركض بعدها مكملًا دورته بنجاح، محتفيًا بوصوله إلى خط النهاية في سباق طويل، لكنه وقع في فخ أوهامه. وجد نفسه عالقًا من غير دراية، وظلَّ ببراءة الساعي بشغفه مستمرًا في الدوران اللامتناهي على هذه العجلة التي يفاقم تدفق عرقه بغزارة من سرعتها.

أناغش الأفكار في بالي... كيف أتحول من هامستر إلى هرٍّ ينعم بالفيء بعد جولة ملاعبة الشمس على العشب.