الشيخ المثقال يكرّم معلّمي سوريا: هكذا يكون المغترب المثالي!
وافترضت وسائل إعلام معارضة وجود استياء شعبي جارف من الصور التي ظهر فيها الطباع، مع الشيخ السوري محمد المثقال، وهما يوزعان مبالغ مالية ضئيلة على الموظفين، في مشهد يذكر بما قام به اليوتيوبر السوري يوسف قباني العام الماضي عندما تنكر في زيّ رجل دين خليجي ليوزع أموالاً على الفقراء في شوارع دمشق بطريقة مستفزة سياسياً وثقافياً. لكن نظرة على التعليقات في صفحة وزارة التربية في "فايسبوك" والمنشورات في الصفحات المحلية، تعطي انطباعاً مختلفاً، حيث كان شكر المثقال على مبادرته حاضراً بالدرجة الأولى.
لا يعني ذلك عدم وجود مُنتقدين للمشهد، خصوصاً مع سياسة الرقابة الصارمة وحذف غير المرغوب فيه من التعليقات في الصفحات الرسمية. فنشر أساتذة وناشطون موالون، رسائل لوزارة التربية في صفحاتهم، اعتبروا فيها أن تقديم المساعدات المادية للمعلمين بهذا الشكل أمام الكاميرات، انتهاكاً لكراماتهم الشخصية، ليس لأنهم يظهرون كالمتسولين، ولا لأنه يفضح الفقر الذي يعانيه المعلمون أسوة بالموظفين إذ يصل سقف رواتب الموظفين الحكوميين مهما كانت مناصبهم إلى 150 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل نحو 16 دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف الرسمي، وهو رقم يقل بكثير عن حصيلة سعر صرف الدولار في السوق.
بل ركزت الانتقادات على ملابس المثقال وشكله ولهجته، للإشارة إلى كونه غير سوري، رغم أنه يتحدر من محافظة دير الزور شرقي البلاد. على سبيل المثال، كتب المدرّس إبراهيم الخنسة، الذي أشار إلى كونه على صِلة بالوزير طباع، منشوراً تم نسخه ولصقه عشرات المرات، جاء فيه: "فليذهب الشيخ مثقال وأمواله إلى الجحيم، فهذا الأبله الذي تسمونه مغترباً يلبس لباساً لا يوحي إلا بعدم انتمائه إلينا وإلى قيمنا، ويباهي بالعطاء بأسلوب نفطي مقرف ونحن لا نقبل ذلك إطلاقاً، ونجد أن واجبنا الطبيعي أن نشير إلى هذه الإساءة بإصبع القوة والصراحة والردع".
هذا الموقف لطالما كان حاضراً في المجتمع السوري الذي لم تتطور فيه هوية وطنية جامعة بعد الاستقلال في أربعينيات القرن الماضي، لصالح الهويات الدينية والطائفية والإقليمية. وعانى سكان المناطق الشرقية والأرياف، تمييزاً ممنهجاً في السياسات الرسمية والخطاب الإعلامي وفي الدراما المحلية بتصويرهم لعقود على أنهم غير متحضرين أو من البدو البعيدين من الحضارة السورية - الدمشقية، بحياتهم العشائرية وقلّة تعليمهم وانتمائهم للهوية العربية في الخليج أو العراق، لا للمركزية "البعثية" في دمشق.
يتمدد ذلك نحو إنكار الفقر في البلاد من زاوية عنصرية، لا سياسية أيضاً، على طريقة ما بثته الإعلامية الموالية للنظام غالية طباع، العام 2020، بأن الفقراء لا يتواجدون في الشوارع بل يخفون أنفسهم في بيوتهم مستورين، وأن مَن "يدذعون" الفقر هم مجرد أشخاص يحترفون التسول لا أكثر. ووفق هذه السردية، يتم تمجيد الفقر كأسلوب حياة، أو القول بأن الفقر الحقيقي ليس الفقر المادي بل الفقر الفكري والحضاري، وغيرها من الأفكار الضحلة لتمييع الموضوع الأساسي المتعلق بانهيار الاقتصاد السوري بعد العام 2011، وحقيقة أن السوريين لم يكونوا قبل ذلك التاريخ يعيشون بحبوحة اقتصادية، بقدر ما كان النظام السوري يتحكم في حياتهم عبر السياسات الاقتصادية من دون الانزلاق نحو الجوع بوصفه خطراً على العقد الاجتماعي نفسه.
وفي بلد تفيد إحصاءات الأمم المتحدة بأن أكثر من 90% من سكانه يعيش تحت خط الفقر بسبب السياسات الرسمية، فإن الحديث الدائم عن الكرامة وعزة النفس والأنفة واضطرار قبول المساعدة من الآخرين، في كل مناسبة يأتي فيها ذكر الحالة الاقتصادية في البلاد، يقدم لمحة عن عنصرية عميقة ضمن المجتمع السوري لا يتم الحديث عنها كثيراً وتأخذ شكل "نزعة تفوق" تقول أن السوريين "خير أمة أخرجت للناس" من زوايا مختلفة: دينية إسلامية، كون دمشق حضرت في نبوءات دينية عن نهاية العالم وكانت "عرين" الخلافة الأموية... ومسيحية من ناحية أن البلاد كانت مهداً قديماً للمسيحية حيث ما زالت قرى في القلمون السوري تتحدث السريانية... وسياسية/ثقافية بسبب عقود من الحكم الشمولي الأسدي الذي عمل على تكريس تلك الفكرة بشكل ممنهج.
وازداد حضور هذه الفكرة خلال العقد الماضي عبر مطالبات بعدم نقل صورة السوريين وهم في موقف ضعف، على اعتبار أن الفقر كذبة أطلقها المعارضون والدول المتآمرة على "الدولة السورية" بسبب "انتصاراتها على الإرهاب". لكن ذلك طاوَل صنّاع المحتوى والأفراد الناشطين في مواقع التواصل، لا الوزارات ورجال الأعمال المرتبطين بالنظام والذين تحضر مبادراتهم "الخيرية" دائماً في وسائل الإعلام الرسمية.
في حالة المثقال الذي أطلق مبادرة "إيد بإيد سورية أحلى" العام 2022، كانت أخبار تبرعاته حاضرة في وكالة "سانا" الرسمية، وتم تكريمه شخصياً من قبل جامعة دمشق، فيما كتبت الصحف الرسمية مقالات المديح له، ونشرت القنوات الرسمية قصائد تغرقه بالثناء خلال مقابلات صحافية! علماً أن تبرعاته لم تشمل المجال التعليمي وحده، بل شملت تقديم سيارات إسعاف لوزارة الصحة، وتوزيع مبالغ مالية على جنود النظام السوري، وغيرها.
ويقدم النظام السوري هذه النوعية من المبادرات ضمن إطارين. الأول، كنموذج لما يجب أن تكون علي الجمعيات غير الحكومية، والثاني كنموذج لما يجب أن يكون عليه "المغتربون السوريون".
ووفق النموذج الأول، يُحدد العمل المدني غير الحكومي بأنه عمل رديف لمؤسسات الدولة وشريك لها وفق ضوابط صارمة، إذ تسيطر "الأمانة السورية للتنمية" التابعة لأسماء الأسد، زوجة الرئيس بشار الأسد، على تلك النشاطات في البلاد. فيما يتم وصم منظمات غير حكومية مستقلة بأنها عميلة للغرب، في أقل تقدير، ما يشكل مساحة لنفي كل ما تصدره تلك المظمات من اتهامات حقوقية وتقارير مستقلة حول مختلف جوانب الحياة في سوريا، كالتقارير الصحافية الصادرة عن "مراسلون بلا حدود"، وصولاً إلى التقارير عن التعذيب في السجون الصادرة عن "هيومن رايتس ووتش" وغيرها.
أما النموذج الثاني، فيحدد معاني أوسع، تشمل السوريين الذين يعيشون خارج سوريا، ليصبح اللاجئون الذين يقدر عددهم بنحو 6 ملايين سوري في الخارج، "أعداء للوطن" أو ضحية للمؤامرة الكونية عليه أو ورقة لعب سياسية. وذلك بشكل لا يكتفي بتجريدهم من إنسانيتهم وحقوقهم، بل ينسف أيضاً تاريخاً كاملاً من انتهاكات حقوق الإنسان التي أدت أصلاً لأزمة اللجوء السوري بعد تحول الثورة السورية إلى حرب أهلية كان النظام السوري فيها يعتمد أسلوب الأرض المحروقة بحسب تقارير دولية ذات صلة. وبعكس ذلك، يتم تعميم نموذج الشيخ المثقال، كمثال على المغترب الوطني الوفي، الذي يعمل في الخارج ويجمع الثروات ويعود بها إلى بلده كي يقدمها للدولة السورية من أجل الإنماء والإعمار.
يتم تقديم ذلك عموماً بإسم "العمل الأهلي" وهو يحضر في مناطق مثل بلدات القلمون في دمشق، تحديداً ديرعطية، التي كانت لسنوات تُقدَّم على أنها مكان مثالي للحياة في سوريا من دون أن يكون للنظام السوري صلة بما يحضر فيها من منشآت لا تتوافر في معظم المدن والبلدات السورية الأخرى. وفي تلك البلدة الصغيرة، ترتفع نسبة المغتربين منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، بسبب التهميش وانعدام الحلول الحكومية، ما جعل الأفراد يمولون مشاريع البناء المختلفة، من أموالهم الخاصة، لأكثر من قرن من الزمن، بما في ذلك شقّ الطرق، والإنارة بالكهرباء، وبناء المدارس والمكتبات العامة والحدائق، بموازاة مشاريع خاصة بالزراعة وتنظيم المياه القليلة في المنطقة وغيرها.
وفيما كان ذلك كله يتم بأموال أهالي البلدة أنفسهم، فإنه كان يُحتكر في النهاية ليتم تقديمه بإسم مؤسسات الدولة السورية ورجال الأعمال المرتبطين بها، بما في ذلك عائلة دعبول ذات النفوذ الواسع في ديرعطية. لكنه في الوقت نفسه، يشكل ذلك جزءاً من ثقافة محلية متداولة، حيث استطاعت تلك المجتمعات الصغيرة تحقيق درجة من الرفاهية في الخدمات العامة لا تتوافر في بقية مناطق سوريا السنّية، في الأرياف، من دون الاعتماد على الدعم السياسي، كما هو الحال في الساحل السوري مثلاً.
واليوم يصبح هذا النموذج ضرورياً لدى النظام المتهالك إدارياً ومؤسساتياً، للحفاظ على مركزيته وسيطرته على الأطراف المهمشة، وتُطرح نماذج محلية مثل الشيخ المثقال، في هذا الإطار. لكن الفرق الوحيد والجوهري بين التجربتين، هو في الحجم والتنفيذ والأفكار ومدى العلنية. ففيما تقدم قرى القلمون نموذج البناء المؤسساتي وتمويل مؤسسات تتبع في النهاية للحكومة السورية، فإن التجارب الجديدة تقتصر على العطايا الشخصية والتبرعات، سواء لموظفين حكومين أو للمؤسسات الرسمية، لا أكثر، ما يخلق مزيداً من الاستياء الشعبي أولاً، ويضيف إلى وَهم التعافي الحكومي الذي تردده أجهزة النظام السوري منذ سنوات.