هَجَرْتَك
أخبرني أبي، وكنتُ في الصّفّ السّابع، بأن المسجد في حارتنا يعقد حلقاتٍ لتحفيظ القرٱن، وطلب مني أن ألتحق بتلك الجلسات. كنت لا أرتدي الحجاب إلا عندما أذهب إلى الجامع، وصرتُ أذهب يومين في الأسبوع، صباح يوميّ الأحد والأربعاء، لأحفظ القرآن وأتعلّم تلاوته، هذا ما اختاره لي والدي من أجل تقوية لغتي العربيّة. وكنت في مساء هذين اليومين أيضاً، أذهب إلى المعهد الموسيقيّ لأتعلّم العزف على ٱلة العود، وهذا ما اخترته لنفسي، لأني حلمت بأن أعزف يوماً "عوّدت عيني على رؤياك" و"هجرتك" لأُمّ كلثوم.
كانت تتناوب على تحفيظنا القرآن معلّمات ومُحفّظات الدِّين، وبينهن مَن كنّ مرحات، خفيفات الظل، يتقبّلن أسئلتي برحابة صدر، ويناقشنها بعِلم وفكرٍ لا بأس بهما.
لكن واحدة منهن كانت تقصد مجموعتنا باستمرار. صارمة وحاذقة، حادّة اللهجة، يسكن الاكفهرار والعبوس بين حاجبيها كلما قمت بتلاوة السُّوَر القرٱنية. وكثيراً ما كانت تُعيد على مَسَامعي بأنّي أغنّي السُّورة القرٱنيّة وآياتها، بدلاً من تلاوتها، إذ أضيف إليها الألحان والموسيقى، وهذا أمرٌّ بغيض ومكروه ويعصى الله. إلّا أني، في رأيها، كنت أُجيد الحفظ السّريع، والَّلفظ السّليم الواضح، وحنجرتي حنونة. ومع ذلك، أصرّت على أن طريقة تجويدي هي الثَّغرة الوحيدة، بل هي العيب والحرام، ويجب أن أتلافاها، وإلَّا ستضطر إلى منعي من ارتياد الحلقات تلك. لكِنّي لم أقتنع بما قالته، ولن..!
في نهاية الفصل التعليميّ، رشّحتني مُحفِّظاتنا، مع ثلاث فتيات أخريات، للمرحلة النّهائية في اختبار خَتم الأجزاء العشرة الأولى من القرآن. نلتُ المرتبة الأولى، بعد موافقة تلك المُحفّظة على مضض، لأنها كانت في لجنة التحكيم، وأعلن حينها اصطحابنا جميعاً في رحلة إلى الطبيعة في يوم الجمعة بعد صلاة الظهر، احتفالاً بالمناسبة.
اجتمعت الفتيات، وأنا بينهن، أمام المسجد، بكامل غبطتنا وسرورنا، ننتظر معلّماتنا، ليتم نقلنا بالحافلة التي سيأتين بها. كانت المرّة الأولى التي تراني فيها مُعلّماتي خارج المسجد، أرتدي بنطالاً تحت الركبة، وبلوزة نصف كُمّ، وأشرب العصير الذي صنعته أمّين جالسةً على الرصيف تحت شمس آب الجنونيّة.
وصَلَت الحافلة، فقفزتُ من مكاني كطفلة في السادسة من عمرها، وذهبتُ لأصعد إليها. لكن، وقبل أن أفعل ذلك، ترجّلت المُحفِّظة ذاتها التي تبغض قراءتي للقرآن، ففوجِئت بأني لست محجّبة. أتتني مهرولة، لتقول بكامل حَنِقها وعبوسها، وبالفصحى: "ظننتكِ محجبة؟ يا خسارة! على أية حال، إذهبي إلى المنزل وغيّري ملابسك ولا تنسي وضع غطاء على رأسك، وسأرسل لك الحافلة مجدداً كي تلحقي بنا".
لم أعرف حينها كيف أجيب. شعرتُ بقلبي ينفطر غيظاً وحسرة، وقد خاب أمل الطفلة في داخلي، والتي تمنّت أن تحظى بشيء من المرح والبهجة مع الأصدقاء، لكن يا لحظّ هذه الطفلة! ثم لا أعرف كيف امتلكتُ حينها شجاعةَ امرأة في الثّلاثين لأُحدّثها باللهجة العاميّة، وأنا أكذب: "أنا مو جاية مشان الرحلة، يا ريت كنت بقدر روح معكم، بس أنا ناطرة بابا هون يخلّص صلاة الجمعة، لروح معو ع بيت جدو ع البستان".
كنتُ أعرف بأنّ أبي ليس هناك، وأنه يصلّي الجمعة في مسجدٍ آخر.
عدتُ إلى المنزل وهرعتُ لأخذِ ثوب الصّلاة الذي كنت أرتديه عادةً إلى الدروس، وعدتُ للمرّة الأخيرة إلى المسجد. صعدتُ إلى غرفة التَّحفيظ، وتوجهت إلى الزّاوية حيث كنت أجلس معهن. أخذتُ ورقة، وضعتُها على حامل القرآن الخشبيّ الذي كان فارغاً تماماً، وكتبتُ فيها لكل من ساهم في استبعادي وحزني في ذلك اليوم، فيما أصابعي تلتهمها رعشة الخوف: "لن أسامح!".
كتبتها وركضتُ عائدةً إلى المنزل. كنت قد نسيتُ ثوبَ الصلاة على رأسي وجسدي، ومشيت به في الطريق الممتد من المسجد إلى البيت. دخلتُ غرفتي، ووقفتُ أمامَ مرآتي بثوب الصلاة، والدمعة تأكل خدّي، وأم كلثوم تَغنّي في فضاءِ الغرفة: "هجرتَك".
كانت تتناوب على تحفيظنا القرآن معلّمات ومُحفّظات الدِّين، وبينهن مَن كنّ مرحات، خفيفات الظل، يتقبّلن أسئلتي برحابة صدر، ويناقشنها بعِلم وفكرٍ لا بأس بهما.
لكن واحدة منهن كانت تقصد مجموعتنا باستمرار. صارمة وحاذقة، حادّة اللهجة، يسكن الاكفهرار والعبوس بين حاجبيها كلما قمت بتلاوة السُّوَر القرٱنية. وكثيراً ما كانت تُعيد على مَسَامعي بأنّي أغنّي السُّورة القرٱنيّة وآياتها، بدلاً من تلاوتها، إذ أضيف إليها الألحان والموسيقى، وهذا أمرٌّ بغيض ومكروه ويعصى الله. إلّا أني، في رأيها، كنت أُجيد الحفظ السّريع، والَّلفظ السّليم الواضح، وحنجرتي حنونة. ومع ذلك، أصرّت على أن طريقة تجويدي هي الثَّغرة الوحيدة، بل هي العيب والحرام، ويجب أن أتلافاها، وإلَّا ستضطر إلى منعي من ارتياد الحلقات تلك. لكِنّي لم أقتنع بما قالته، ولن..!
في نهاية الفصل التعليميّ، رشّحتني مُحفِّظاتنا، مع ثلاث فتيات أخريات، للمرحلة النّهائية في اختبار خَتم الأجزاء العشرة الأولى من القرآن. نلتُ المرتبة الأولى، بعد موافقة تلك المُحفّظة على مضض، لأنها كانت في لجنة التحكيم، وأعلن حينها اصطحابنا جميعاً في رحلة إلى الطبيعة في يوم الجمعة بعد صلاة الظهر، احتفالاً بالمناسبة.
اجتمعت الفتيات، وأنا بينهن، أمام المسجد، بكامل غبطتنا وسرورنا، ننتظر معلّماتنا، ليتم نقلنا بالحافلة التي سيأتين بها. كانت المرّة الأولى التي تراني فيها مُعلّماتي خارج المسجد، أرتدي بنطالاً تحت الركبة، وبلوزة نصف كُمّ، وأشرب العصير الذي صنعته أمّين جالسةً على الرصيف تحت شمس آب الجنونيّة.
وصَلَت الحافلة، فقفزتُ من مكاني كطفلة في السادسة من عمرها، وذهبتُ لأصعد إليها. لكن، وقبل أن أفعل ذلك، ترجّلت المُحفِّظة ذاتها التي تبغض قراءتي للقرآن، ففوجِئت بأني لست محجّبة. أتتني مهرولة، لتقول بكامل حَنِقها وعبوسها، وبالفصحى: "ظننتكِ محجبة؟ يا خسارة! على أية حال، إذهبي إلى المنزل وغيّري ملابسك ولا تنسي وضع غطاء على رأسك، وسأرسل لك الحافلة مجدداً كي تلحقي بنا".
لم أعرف حينها كيف أجيب. شعرتُ بقلبي ينفطر غيظاً وحسرة، وقد خاب أمل الطفلة في داخلي، والتي تمنّت أن تحظى بشيء من المرح والبهجة مع الأصدقاء، لكن يا لحظّ هذه الطفلة! ثم لا أعرف كيف امتلكتُ حينها شجاعةَ امرأة في الثّلاثين لأُحدّثها باللهجة العاميّة، وأنا أكذب: "أنا مو جاية مشان الرحلة، يا ريت كنت بقدر روح معكم، بس أنا ناطرة بابا هون يخلّص صلاة الجمعة، لروح معو ع بيت جدو ع البستان".
كنتُ أعرف بأنّ أبي ليس هناك، وأنه يصلّي الجمعة في مسجدٍ آخر.
عدتُ إلى المنزل وهرعتُ لأخذِ ثوب الصّلاة الذي كنت أرتديه عادةً إلى الدروس، وعدتُ للمرّة الأخيرة إلى المسجد. صعدتُ إلى غرفة التَّحفيظ، وتوجهت إلى الزّاوية حيث كنت أجلس معهن. أخذتُ ورقة، وضعتُها على حامل القرآن الخشبيّ الذي كان فارغاً تماماً، وكتبتُ فيها لكل من ساهم في استبعادي وحزني في ذلك اليوم، فيما أصابعي تلتهمها رعشة الخوف: "لن أسامح!".
كتبتها وركضتُ عائدةً إلى المنزل. كنت قد نسيتُ ثوبَ الصلاة على رأسي وجسدي، ومشيت به في الطريق الممتد من المسجد إلى البيت. دخلتُ غرفتي، ووقفتُ أمامَ مرآتي بثوب الصلاة، والدمعة تأكل خدّي، وأم كلثوم تَغنّي في فضاءِ الغرفة: "هجرتَك".