عن أبي وبقية الآباء الأشقياء
في الصف الابتدائي الخامس، أو السادس ربما، بدأت عبارة "بنتك رح تصير شاعرة" تتكرر على مسامع أبي. كان يبتسم ابتسامة عريضة يتبعها بتنهيدة متعبة. أبي رجل يحب الشعر، وولادة مشروع شاعرة في بيته كان أمراً مبهجاً بالنسبة إليه، لكنه كان متعِباً في الوقت ذاته. فذوو الأطفال الموهوبون أشقياء، خصوصاً إذا ما كانوا كمثل حال أبي، أرباب أُسر كبيرة نسبياً، يقطنون في الريف البعيد، ويقتاتون على رواتبهم الحكومية وما تمنّ به عليهم أرضهم.
"أنا محلك.. بطير فيها عالشام"، هكذا قال له عمي عندما نقل له أبي خبر فوزي في "رواد الطلائع". ولمن لا يعرف، فإن عبارة "طار به عالشام"، أي إلى دمشق، كانت ترافق الحديث عن مريض في حالة مستعصية، إذ لطالما كانت الشام بالنسبة إلينا، نحن أبناء الساحل الفقير، ملاذاً لإنقاذ الأرواح في اللحظة الأخيرة... في الحقيقة، فإن نقل طفل مريض إلى دمشق، أسهل بكثير من نقل موهبة. في الحالة الأولى، ستحمل ابنك الذابل وتركع أمام المستشفى. سيكون الأمر بطولياً كأنه مشهد من فيلم. سيركض تجاهك المسعفون، يوجهونك، يستلمون منك زمام الأمور، وتنتهي مهمتك. أما إذا كان طفلك مريضاً بالموهبة، فماذا ستفعل؟ هل ستقفان معاً أمام مركز ثقافي؟ ثم ماذا؟ لن يهرع صوبكما أحد، ولن يصغي لشرحكما أحد، فدعا عنكما عناء السفر وكلفته.
عندما تقدمت إلى المرحلة الثانية من مسابقة "الرواد"، خرجت من الاختبار، فرأيت وجه أبي كالحاً، ومن باب تشتيته عن حزنه الذي لم أعرف له سبباً، قلت له: "بيي، بتعرف مين كان معنا جوا؟ ابنة(مسؤول)"، فلم يجب. اليوم أفهم جيداً لماذا ماطل في إخباري بالنتيجة بعد صدورها، ولماذا حاول تجنب إخباري إسم الفائزة. وأمام إلحاحي، نطق اسمها، ولم يقل لي ابنة فلان، كان يحاول أن يحجب عن عينيّ الصغيرتين واقعاً سأراه آجلاً.
لا فعاليات أدبية في القرى، والخبز يُشبع أكثر من الورق، والموهبة الجائعة ملعونة بسبع أرواح لا تستطيع خسارةٌ واحدة وأدها، ثم إن الأطفال عنيدون! لم يبق أمامه سوى حل واحد: كان يذهب إلى المدينة مرة في الشهر، يقبض راتبه ويجول في الأسواق، يشتري البذار والحاجيات. لحسن الحظ، كان المركز الثقافي في أول المدينة، عند موقف الباصات. في الصيف أخذني إلى المكتبة الضخمة في المركز، وتركني وحيدة أتنشق رائحة الورق الرطب، وألتهم ما تتسع له عيناي. شيء لا علاقة له بترهات التربية الحديثة. لم يكن أمامي سوى قضاء الوقت في ذلك العالم السحري حتى يعود. تأرجحت بين الخوف واللذة في المرة الأولى. تركني ساعات ثلاث بينما أتم عمله، ثم ودّعتُ الكتب على ميعاد في الشهر التالي، ثم الثالث الأخير.
في خزانة أبي كانت تتدلى ربطات عنق عديدة، لكن المرة الأولى التي رأيت واحدة منها تتدلى على صدره كانت في حفلة دعينا إليه لتكريم المراتب الثلاث الأولى في "رواد الطلائع". ربطة العنق، حسب فلسفته التي استنبطتها بنفسي، هي مجاز الظهور بهيئة الزهو. لم يرتدِ أبي واحدة منها (قبل حفلات زفافنا) إلا في تكريمات تفوقنا، أختي وأنا. عندما تذوقت حلاوة الزهو في عيني أبي، حاولت مراراً أن أعيد خلقها. كانت عيناه تتلألآن كلما قرأت له قصيدة جديدة، أو كررت له واحدة على مسامع أصدقائه. السرقة الأدبية الوحيدة التي أقدمتُ عليها كانت ذات صيف، حين كنت في العاشرة، عندما تقدمت منه بينما يجلس مع ضيوفه، وأردت أن أجعله يزهو، فقرأت لهم قصيدة من منهج لغة عربية قديم، لا أذكرها، لكنها كانت أشهر من نار على علَم، كما تبينتُ لاحقاً. أنهيت القراءة ورفعت بصري نحو عينيه لأراهما فارغتين من أي تعبير. سألني: "أنتِ كتبتِها أم قرأتِها؟"، فأجبت بثقة حمقاء: "ألّفتها"، فقال: "طيب" والتفت إلى ضيوفه. استوعبت لاحقاً فداحة أن تكون لصاً وغبياً أيضاً، وكانت سرقتي الأولى والأخيرة.
في الصف الثانوي الأول، اشتركتُ في مسابقة أدبية نظّمتها "الشبيبة" في المركز الثقافي. كنت، وما زلت، يقتلني الانتظار. ومتُّ سبع مرات مذ قدمت قصيدتي الورقية حتى إعلان النتائج بعد أسبوع. الضربة القاضية كانت عندما أُذيع إسم غير اسمي في المركز الأول، إذ كنت واثقة جداً في ما كتبت، فشعرت أني أختنق، لكن تنفساً اصطناعياً أجري لي عندما لم يُذكر اسمي في الشكر الذي قُدِّم للمتسابقين. جففت دموعي بكُمّي وأسرعت قبل انتهاء الحفلة وانفضاضها إلى لجنة التحكيم، أذكّرهم بمشاركتي وكلّي أمل أن تعاد الحسبة. ذكّرتهم بإسمي فلم يتذكروه، ذكّرتهم بالقصيدة، "رثاء نجيب محفوظ"، فقال رئيس اللجنة: "محمد فك يسوعاً عن الصليب، ليسيرا في جنازة الحبيب؟"، قلت: "نعم نعم!"، فردّ بأن هذه القصيدة استبعدت من المسابقة، إذ لا يمكن لطالب في الصف الثانوي الأول أن يقول هذا. أنا لم أسرق هذه المرة، لكن أحداً لم يصدقني. هذه المرة، بكيتُ كما لم أبكِ من قبل، وعزفتُ عن الكتابة لسنوات، إلى أن استكتبتني دمشق.
على راحتيه، حملني أبي إلى دمشق للدراسة، ربما لأشق طريقي نحو النور من باب المدينة. كنت كئيبة هناك، فكتبت كمن يصنع لنفسه كعكة كل يوم. تلقفني مدرّس اللغة الانكليزية في المعهد (وكانت له محاولات شعرية)، ووصلني بزميل له عضو في اتحاد الكتّاب، قرأ لي، أشاد بي، وانتقدني، ودعاني لأحضر فعاليات ثقافية في آخر الدنيا. فذهبتُ وعدت محبطة فاقدة الأمل، لا خبز لي في دمشق يا أبي.
في خلال الأزمة السورية، وصلتني الإنترنت مع مغنٍّ لبناني، كتبت له أغنيات عما كنت أظنه الوطن، فأنشد لي، وسمع الحي أغنياتي، ثم زَها أبي بغير ربطة عنق.
اليوم، وبعدما وضعتُ تاج الشعر في خزانة المطبخ إلى جانب مرطبانات المونة، أنا التي تزوجت شاعراً وضع تاج شعره هو الآخر في حقيبة على دراجته... ترتجل لي ابنتي ذات الأعوام الستة، مجازات في الوصف تجعلني أشعر بالزهو، وتؤلف لألعابها أغنيات بديعة كي يناموا. بالأمس، تعلَّمَت الصغيرة في درس القراءة أن المكتبة عالم أوسع من الشيء الخشبي الموجود في الصالة. حدثتها بشغف عن مكتبة المركز الثقافي، وأنتظر بفارغ الصبر أن يحين الصيف لأتركها تجرب مزيج الخوف واللذة والرطوبة ورائحة الورق.
"أنا محلك.. بطير فيها عالشام"، هكذا قال له عمي عندما نقل له أبي خبر فوزي في "رواد الطلائع". ولمن لا يعرف، فإن عبارة "طار به عالشام"، أي إلى دمشق، كانت ترافق الحديث عن مريض في حالة مستعصية، إذ لطالما كانت الشام بالنسبة إلينا، نحن أبناء الساحل الفقير، ملاذاً لإنقاذ الأرواح في اللحظة الأخيرة... في الحقيقة، فإن نقل طفل مريض إلى دمشق، أسهل بكثير من نقل موهبة. في الحالة الأولى، ستحمل ابنك الذابل وتركع أمام المستشفى. سيكون الأمر بطولياً كأنه مشهد من فيلم. سيركض تجاهك المسعفون، يوجهونك، يستلمون منك زمام الأمور، وتنتهي مهمتك. أما إذا كان طفلك مريضاً بالموهبة، فماذا ستفعل؟ هل ستقفان معاً أمام مركز ثقافي؟ ثم ماذا؟ لن يهرع صوبكما أحد، ولن يصغي لشرحكما أحد، فدعا عنكما عناء السفر وكلفته.
عندما تقدمت إلى المرحلة الثانية من مسابقة "الرواد"، خرجت من الاختبار، فرأيت وجه أبي كالحاً، ومن باب تشتيته عن حزنه الذي لم أعرف له سبباً، قلت له: "بيي، بتعرف مين كان معنا جوا؟ ابنة(مسؤول)"، فلم يجب. اليوم أفهم جيداً لماذا ماطل في إخباري بالنتيجة بعد صدورها، ولماذا حاول تجنب إخباري إسم الفائزة. وأمام إلحاحي، نطق اسمها، ولم يقل لي ابنة فلان، كان يحاول أن يحجب عن عينيّ الصغيرتين واقعاً سأراه آجلاً.
لا فعاليات أدبية في القرى، والخبز يُشبع أكثر من الورق، والموهبة الجائعة ملعونة بسبع أرواح لا تستطيع خسارةٌ واحدة وأدها، ثم إن الأطفال عنيدون! لم يبق أمامه سوى حل واحد: كان يذهب إلى المدينة مرة في الشهر، يقبض راتبه ويجول في الأسواق، يشتري البذار والحاجيات. لحسن الحظ، كان المركز الثقافي في أول المدينة، عند موقف الباصات. في الصيف أخذني إلى المكتبة الضخمة في المركز، وتركني وحيدة أتنشق رائحة الورق الرطب، وألتهم ما تتسع له عيناي. شيء لا علاقة له بترهات التربية الحديثة. لم يكن أمامي سوى قضاء الوقت في ذلك العالم السحري حتى يعود. تأرجحت بين الخوف واللذة في المرة الأولى. تركني ساعات ثلاث بينما أتم عمله، ثم ودّعتُ الكتب على ميعاد في الشهر التالي، ثم الثالث الأخير.
في خزانة أبي كانت تتدلى ربطات عنق عديدة، لكن المرة الأولى التي رأيت واحدة منها تتدلى على صدره كانت في حفلة دعينا إليه لتكريم المراتب الثلاث الأولى في "رواد الطلائع". ربطة العنق، حسب فلسفته التي استنبطتها بنفسي، هي مجاز الظهور بهيئة الزهو. لم يرتدِ أبي واحدة منها (قبل حفلات زفافنا) إلا في تكريمات تفوقنا، أختي وأنا. عندما تذوقت حلاوة الزهو في عيني أبي، حاولت مراراً أن أعيد خلقها. كانت عيناه تتلألآن كلما قرأت له قصيدة جديدة، أو كررت له واحدة على مسامع أصدقائه. السرقة الأدبية الوحيدة التي أقدمتُ عليها كانت ذات صيف، حين كنت في العاشرة، عندما تقدمت منه بينما يجلس مع ضيوفه، وأردت أن أجعله يزهو، فقرأت لهم قصيدة من منهج لغة عربية قديم، لا أذكرها، لكنها كانت أشهر من نار على علَم، كما تبينتُ لاحقاً. أنهيت القراءة ورفعت بصري نحو عينيه لأراهما فارغتين من أي تعبير. سألني: "أنتِ كتبتِها أم قرأتِها؟"، فأجبت بثقة حمقاء: "ألّفتها"، فقال: "طيب" والتفت إلى ضيوفه. استوعبت لاحقاً فداحة أن تكون لصاً وغبياً أيضاً، وكانت سرقتي الأولى والأخيرة.
في الصف الثانوي الأول، اشتركتُ في مسابقة أدبية نظّمتها "الشبيبة" في المركز الثقافي. كنت، وما زلت، يقتلني الانتظار. ومتُّ سبع مرات مذ قدمت قصيدتي الورقية حتى إعلان النتائج بعد أسبوع. الضربة القاضية كانت عندما أُذيع إسم غير اسمي في المركز الأول، إذ كنت واثقة جداً في ما كتبت، فشعرت أني أختنق، لكن تنفساً اصطناعياً أجري لي عندما لم يُذكر اسمي في الشكر الذي قُدِّم للمتسابقين. جففت دموعي بكُمّي وأسرعت قبل انتهاء الحفلة وانفضاضها إلى لجنة التحكيم، أذكّرهم بمشاركتي وكلّي أمل أن تعاد الحسبة. ذكّرتهم بإسمي فلم يتذكروه، ذكّرتهم بالقصيدة، "رثاء نجيب محفوظ"، فقال رئيس اللجنة: "محمد فك يسوعاً عن الصليب، ليسيرا في جنازة الحبيب؟"، قلت: "نعم نعم!"، فردّ بأن هذه القصيدة استبعدت من المسابقة، إذ لا يمكن لطالب في الصف الثانوي الأول أن يقول هذا. أنا لم أسرق هذه المرة، لكن أحداً لم يصدقني. هذه المرة، بكيتُ كما لم أبكِ من قبل، وعزفتُ عن الكتابة لسنوات، إلى أن استكتبتني دمشق.
على راحتيه، حملني أبي إلى دمشق للدراسة، ربما لأشق طريقي نحو النور من باب المدينة. كنت كئيبة هناك، فكتبت كمن يصنع لنفسه كعكة كل يوم. تلقفني مدرّس اللغة الانكليزية في المعهد (وكانت له محاولات شعرية)، ووصلني بزميل له عضو في اتحاد الكتّاب، قرأ لي، أشاد بي، وانتقدني، ودعاني لأحضر فعاليات ثقافية في آخر الدنيا. فذهبتُ وعدت محبطة فاقدة الأمل، لا خبز لي في دمشق يا أبي.
في خلال الأزمة السورية، وصلتني الإنترنت مع مغنٍّ لبناني، كتبت له أغنيات عما كنت أظنه الوطن، فأنشد لي، وسمع الحي أغنياتي، ثم زَها أبي بغير ربطة عنق.
اليوم، وبعدما وضعتُ تاج الشعر في خزانة المطبخ إلى جانب مرطبانات المونة، أنا التي تزوجت شاعراً وضع تاج شعره هو الآخر في حقيبة على دراجته... ترتجل لي ابنتي ذات الأعوام الستة، مجازات في الوصف تجعلني أشعر بالزهو، وتؤلف لألعابها أغنيات بديعة كي يناموا. بالأمس، تعلَّمَت الصغيرة في درس القراءة أن المكتبة عالم أوسع من الشيء الخشبي الموجود في الصالة. حدثتها بشغف عن مكتبة المركز الثقافي، وأنتظر بفارغ الصبر أن يحين الصيف لأتركها تجرب مزيج الخوف واللذة والرطوبة ورائحة الورق.