ما المخيف إلى هذا الحد في حبّ الذات؟
هو الخوف يعود، أو اللّذة حتى. لذّةٌ غريبةٌ في أن يحبّ المرء نفسه. تجعل معدتك تنقبض، وتبدأ الفراشات في الرفرفة، ما بين القلب والبطن، جيئةً وذهاباً، كأنها ترتطم بحائطٍ هنا وحائطٍ هناك.
لذّةٌ تبعث على الخوف، لا سيما إن لم تكن/تكوني معتاداً/ة. أتوقّع أنه الهرمون نفسه الذي يُفرز، عندما يحبّ المرء شخصاً ما، وعندما يحبّ نفسه. أم أنه مختلف، أتعلمون؟
ليس الخوف مستغرباً في هذا السياق، فاللذة والخوف صديقان، والخوف يجلب لذّةً للبعض. يُطلَق على هذه العلاقة اسم مفارقة الخوف الممتع. وأثبتت الدراسات وجود دائرةٍ عصبية في الدماغ تتعامل في الوقت نفسه مع إشارتين متعاكستين، هما المتعة والخوف. نعم، أشعر بهما يتمازجان الآن في بدني، فينقبض بطني أكثر.
ما الذي يخيفني إلى هذا الحدّ في أن أحبّ نفسي؟ هذا السبب اللعين هو نفسه الذي كان يصعّب الأمور. ألم أسأل من قبل لماذا أجد صعوبةً في صدّ تعدّياتٍ تُسقط عليّ، وكنت أظنّ أن لا دور لي فيها؟ اعتبرتُ حينها أن غيرةً ما أو حقداً أو غيرها من مسبّبات الطاقة السلبية، هي السبب، وفاتني أن الإنسان يتفوّق على نفسه دائماً. الإنسان يدرك مباشرةً ما إذا كان الآخر قبالته يعرف لذّة أن يحبّ نفسه أم لا.
إذا لم يشمّ رائحة تلك اللذة بشكلٍ واضح، يفهم مباشرةً أن قبالته فريسةً سهلة إلى حدّ ما، يمكنه الانقضاض عليها في أيّ لحظة. ويُفضّل طبعاً اختيار لحظةٍ يتدنّى فيها حبّ الذات إلى أقصى حدّ ممكن. هو الاستسهال في كلّ شيء، حتى في الصيد والأكل والاستهلاك. عن استهلاك البشر بعضهم بعضاً أتحدّث.
علينا جميعاً التنبّه لتلك الرائحة، ولضرورة انبعاثها من أجسامنا. وإذا لم تنبعث، فلنتعطّر ولنكثِر من الروائح المقلّدة، مِن تلك التي يُكتَبُ عليها أنها "باب أوّل"، لعلّ إحداها تصيب رائحة حبّنا لأنفسنا. سيتطلّب الأمر الكثير من الوقت، وعليكم عدم الإكثار من الاستحمام في الفترة الأولى إلى أن تثبُت الرائحة. فانعدامها سيئ وله آثار سلبية في المرء، كما أنه يؤثّر أيضاً في الآخرين من حولنا، فيبعث فيهم رغبة في الانتقام. مَن قادر على حبّ امرئٍ لا يحبّ نفسه؟
سيتطلّب الأمر زمناً قد يبدو أبدياً، لكننا داخل "كانفا" مسحورة من النوع المعربش، فيها الكثير من الألوان والأحرف والموسيقى وتعبق فيها رائحةٌ نفّاذة. مليارات الذرّات، لامعةً وجذّابة، تسبح في فضاءٍ هائل من الاحتمالات الرائعة. شرط الحياة السعيدة هناك، امتلاك رائحة حبّ الذات. هل يعقل أن تَدَعوها تنساب من بين أصابع أيديكم وتتكاثر، خارجكم؟
أعود إلى بدني. الانقباضات تتسارع. يداي باردتان. أحتاج إلى يدٍ أتمسّك بها، لكني أعلم أني وحدي في هذا. لا يمكن أن يشاركك أحدٌ هذه اللحظات، مع أنها تبدو كمخاضٍ، والمرأة تحتاج إلى يدٍ تشدّ عليها في المخاض، لكنها قادرة في النهاية على فعل الولادة وإن غابت اليد. شهيقٌ وزفير. لا شيء يهدّئ النفْس سوى التنفّس، أو تلك الرائحة حين تفحّ.
أَنتظِر.
لا أعلم لماذا أعتمدُ لغةً خطابيةً كهذه: علينا جميعاً، فلنكثر، أيعقل؟… لكأني أكتب رسالتي الأخيرة وأضمّنها أعزّ توصياتي. إنه الخوف مجدداً.
العودة إلى اللحظة الراهنة هو الحلّ دائماً لنوبات الهلع. سَمِّي ما ترينه. حاولي التقاط جميع الأصوات المحيطة، حتى تلك الأبعد بعد. شمّي الهواء لعلّك تتعرّفين على تلك الرائحة. ركّزي بين الحاجبين، أغمضي عينيكِ، وأفلتي أنفك للهواء. إلتقطي شيئاً ما في يدك وحاولي وصف ملمسه بالكلمات. ناعمٌ، دائريّ إلى حدٍّ ما، باردٌ، وفيه نتوءات. أتركي يدك لمدةٍ أطول. هل أصبح أكثر سخونةً؟ هذا ما تفعله اليد البشرية، تُدفِئ القلبَ أثناء المخاض.
لكن هذا المخاض مختلف، ويمكن ليدِكِ الأولى أن تلامس الثانية. كما يمكن لك أن تحضني نفسك. أحضني نفسك الآن وهنا. توقّفي عن القراءة وقولي "أُحِبُّكِ". نغّميها. كأنكِ أم كلثوم تغنّي لصوتِها. كم كانت تحبّه.
اللّذة. عودي إلى اللّذة واستحضريها بكلّ حواسك. ستخطر لك الكثير من المنغّصات، وستتساءلين إذا كان العشبُ هناك، في الضفّة المقابلة، أكثر خضرة. ما الجدوى أساساً؟ قد يتردّد في ذهنكِ السؤال. وقد تظهر صورة أمّكِ أو أبيك أو زوجك أو إبنك أو ابنتك أو… اطرديهم بلطفٍ، فليس هذا وقتاً مناسباً البتّة. إنه وقتكِ أنت، وهذه ليست أنانية.
"تشبّثي يا صغيرتي، كدتِ تصلين". أحياناً يكفي أن يقولها أحد كي لا نفلتَ الحبل ونقع. تماماً كالنشوة: حبلٌ قد ينقطع في أيّ لحظة، ويعيدك إلى نقطة الصفر. يحدث هذا كثيراً للبشر. أفكارهم تنقطع أيضاً، وحتى بَولهم.
لكنك هذه المرة ستجدين الدافع من دون أن يشجّعكِ أحد. أين جارور الدوافع في هذا المجسّم اللّعين؟ تتجمّدين للحظة، كصورةٍ. لحظاتٌ وتعود الدماء إلى الجريان فيك، كما في كلّ مرة. لم يحن وقتك بعد، وثمة رائحةٌ نعمل على تصنيعها في هذه اللحظات. رائحتُكِ أنت.
شهيقٌ وزفير، ومجدّداً. تجري الأنفاس متتابعة. تستقبلينها بهدوء، وتراقبينها. لذيذة هذه الأنفاس، لا بأس بها. كما أن دقّات القلب واندفاع الدماء يبثّان شعوراً بالدفء. تتذكّرين أن لديك أطفالاً يحتاجون إلى أنفاسك فتنتفضين. متى أوجد من أجلي فقط؟ أُتيحت لي هذه الفرصة من قبل لكني لم أغتنمها إذ لم تكن لي رائحة مناسبة. لا مكان للندم الآن، ولا للحسرة، ولا للذنب. عودي إلى دقّات القلب وانجرفي معها. كثيرون يُقلِقهم سماع دقّات قلوبهم والتركيز فيها، لا سيما من ربطوا وجودهم بأسىً ما، لا سيما مَن ما زالت قلوبهم مُثقلة. وهذا الثقل هو تحديداً ما سترمينه الآن.
آآآآآآه بحجم الفضاء، والكانفا المعربشة. آآآآآآآآآه بصوت أم كلثوم.
آآآآآآه لكِ وحدك. تتأوّهين. أتعبَكِ الآخرون، كنتِ تقولين، لكنك أيضاً أتعبتِ نفسك.
آآآآآآه بحجم التعب. حين يستلقي المرء بعد تعبٍ، تنتابه لذّةٌ تنتشر في شرايينه. إستلقي الآن. فقد كان مخاضاً مرهقاً.
لا تخافي. وَلَدْتِ للتوّ، ولم يكن طفلاً.
(غمغمة)
أنصِتي قليلاً، أتشمّين تلك الرائحة؟
(*) ملاحظة للقارئ:
عذراً، حاولت أن يكون هذا النص موجّهاً لجميع المهتمّين بتلك الرائحة، رجالاً ونساء. لكن بحُكم أني امرأة، انزلقتُ إلى التأنيث انزلاقاً مقصوداً. ذلك أن لحبّ النفس جانباً جندريّاً لم يكن في وسعي تجاهله.