التمرد القضائي يخرج للعلن..حالة القاضي قردوحي "فردية"؟
لم يكن تبرير وزير العدل هنري خوري لخلفية قراره الذي قضى بتوقيف القاضي شادي قردوحي عن العمل، ريثما يصدر قرار المجلس التأديبي بحقه، مقنعاً للكثيرين. ففي وقت عزا القرار لـ"تخلف قردوحي وتغيبه عن محكمته"، كان الاعتكاف القضائي يدخل شهره الخامس، مع تمنع 370 قاضياً من أصل حوالى 550 قاضياً عن متابعة ملفاتهم القضائية، ليبدو وكأنّ التفتيش القضائي لم يرَ إلا قردوحي، المعترض أصلاً على الاعتكاف القضائيّ!
شبّه قردوحي زمن رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود بـ"الزمن العضومي"، عازياً سبب توقيفه الحقيقي لـ"تجرؤي على طلب رد عبود النظر بطلب رد أمام الهيئة التمييزية". التجرؤ، سبقته جرأة بدعوته الشعب اللبناني لملاقاته في "تطهير القضاء من القضاة الفاسدين"، وهو ما دغدغ مشاعر شريحة واسعة من الشعب اللبناني التواق لقضاء مستقلّ، وساهم في إنجاح ظاهرة التمرد "القردوحيّ" في هذا الوقت.
تتضح إذاً محاولة "تحجيم" لمفاعيل ظاهرة "القاضي المتمرد" شادي قردوحي، التي أبرزتها صفحاته في السوشال ميديا تحت عنوان "الثورة القضائية"، والتي أربكت جسماً قضائياً برمته، وقد بات الأخير يضيق بأي صوت اعتراضي!
وتكمن قوة هذه الظاهرة باحتمال تمددها لدى قضاة آخرين. في السياق، يقول مصدر مطلع على أحوال العدلية في حديثه لـ"المدن"، أن قردوحي إذ عبّر عن رأيه بطريقة "فردية"، لكنّ كلامه يعبر عن رأي الكثيرين من القضاة غير القادرين على التعبير في ظل "موجب التحفظ" الذي تم الرجوع اليه لمعاقبة قردوحي أمام التفتيش القضائي.
ظاهرة قردوحي
نجح قردوحي باستقطاب التأييد الشعبي عبر الميديا، حيث شكلت انتفاضة 17 تشرين حافزاً له، فبدأت تحفظاته على الأوضاع القضائية تظهر على مجموعات واتسأبية للقضاة، وسرعان ما ظهر سخطه للعلن عبر صفحاته في "السوشال ميديا" في حقبة انتفاضة 17 تشرين، قبل أن يستحدث في حزيران 2021، صفحة له عبر "فايسبوك" يتابعها 8 آلاف متابع اليوم.
وتخطت كتابات قردوحي، التذمر من واقع القضاء، فكشف النقاب عن "مخالفات قضائية خطيرة جدا"، أحدها كان السبب بانسحابه من قوس المحكمة في إحدى المحاكمات، إثر "تدخلات سياسية بهدف تبرئة المتهم، الذي اعترف بجريمة قتل عمد".
"القاضي الثائر" كما يلقب نفسه، هدف صراحة لـ"تطهير القضاء من القضاة الفاسدين"، وهو ما تجلى بإطلاقه عريضة "الثورة القضائية" في حزيران 2022، والتي وقّعها قرابة 4 آلاف لبناني متعطش لتحرير القضاء من التدخل السياسي، قبل ان يشعل قرار ايقافه عن عمله الثلاثاء، مواقع التواصل تضامناً مع "قاضٍ بحجم وطن".
طروحات جريئة
"القاضي المنتفض منذ تخرجه من المعهد القضائي" وفق ما يصفه مقربون، قام بتقديم طروحات جريئة تحت مسمى الثورة القضائية، ملخّصاً أبرز أهدافها، بمنع السلطة من التدخل في القضاء وعمل القضاة، وتطهير القضاء من الفاسدين ومحاسبة القضاة المرتكبين، على مستوى استقلالية القضاء.
وفي الملف المالي، دعا للمباشرة فوراً بتطبيق القانون رقم ٤٤/٢٠١٥ المتعلق بمكافحة تبييض الأموال وجرائم الفساد بحيث "تباشر ملاحقات جدية بحق الحاكم والمصارف بتهمة الافلاس الاحتيالي وهي جناية"، إضافة الى الحجز على اموال كبار المساهمين بمن فيهم رجال السلطة الفاسدين، واجتثاث الكارتيلات في المحروقات والدواء والسلع الغذائية، واستيفاء الضرائب المترتبة على شاغلي الاملاك البحرية واصحاب المرامل والكسارات.
ودعا للضغط عبر "لوبي شعبي" لإقرار قانون استقلالية السلطة القضائية، وناشد عبر العريضة التي نالت آلاف التواقيع "القضاة الشرفاء" ليعرفوا ان "شعبهم يطالبهم بالثورة بوجه القضاة الفاسدين وانتزاع استقلاليتهم "انتزاعا"، فالشعب "اختار الثورة القضائية للمحاسبة".
أما هدف الثورة القضائية النهائي فهو تحقيق "القضاء العادل، فالقضاء ممنوع يميز القوي عن الضعيف".
الظلم... محركه الأول
تجمع مصادر على دراية بأوضاع العدلية، على أنّ "لا مرجعية تدعم" قردوحي بدليل أن "الجميع تآمروا عليه"، معتبرة أن تمرده هو "حالة فردية مستقلة".
ويشبّه مصدر "شطط" قردوحي لناحية خرق موجب التحفظ القضائي بـ"شطط القاضية غادة عون"، مع فارق "الخلفية غير المسيسة التي ينطلق منها" والتي شكلت عامل جذب للبنانيين.
من هنا، يكمل المصدر "إنّ ما يحرك قردوحي هو الوضع القضائي الشاذ والظلم الذي يراه بأم العين من خلال الحالات التي يعاينها بصفته قاض مستشار في محكمة الجنايات، حيث القانون لا يطبق الا على الفقير ويفلت المحظيون من العقاب، وهو ما يثير حفيظة العديد من القضاة، ومن بينهم قردوحي، الذي انسحب عدة مرات من قوس المحكمة كاعتراض على هذا الواقع".
أما الفارق بين قردوحي والقضاة الآخرين الممتعضين، فهو بتعبيره "الفاقع" الذي لا يتناسب مع أدبيات الجسم القضائي بدليل توجيهه تحذيرات عدة له بحجة "الاساءة للقضاء" وصولاً لإيقافه عن عمله.
السوشال ميديا كوسيلة
"كان قردوحي تلميذي في المعهد القضائي" يقول المدعي العام التمييزي السابق، القاضي حاتم ماضي، في حديثه لـ"المدن"، مضيفاً: "يبدو أن شفافيته دفعته لإعلاء الصوت، فسرّب علناً ما لم يستطع عليه صبراً".
ومع أنه لا يؤيد أن "يقوم القاضي بقيادة معاركه الشخصية، فهناك من يناضلون بإسمه، سيما وأن موجب التحفظ يمنعه من الكلام"، يذكّر ماضي بأن القضاة "مواطنون"، وهم تأثروا بالانهيار، وهم يقولون "آخ" كسائر اللبنانيين.
وإذ يوافق ماضي على أن السوشال ميديا ساهمت في إظهار حالة التمرد القضائي هذه للعلن، لا ينكر أن القضاء مؤسسة مثل كل المؤسسات الرسمية في البلد، وهو ليس في أحسن أحواله.
وعن حالات تمرد فردي مماثلة شهدها الجسم القضائي في الماضي، يلفت إلى أن الأمر لا يخلو من اعتراضات وانتقادات داخلية، لكنها كانت محدودة عدداً وتأثيراً، إذ لم تتبلور لتصل للإعلام والناس، وربما لم نعرف بها جميعها".
لحماية القضاة من السياسيين
يقلل ماضي من حجم تأثير ثورة فردية لقاضٍ،"فالمواطن نفسه ليس على استعداد لثورة قضائية يرى فيها المحميين طائفياً وسياسياً في السجون" فيما "القضاة تمارس عليهم ضغوط سياسية رهيبة"، وحتى تجربة نادي القضاة تم تحجيمها"، مستخلصاً أنه "قبل التكلم عن استقلالية القضاء، الأجدر بنا المطالبة بقانون حماية القضاة من السياسيين".
في المحصلة، يرى ماضي بأن حالات التمرد الفردية لن يكتب لها النجاح في ظل التركيبة اللبنانية الحالية، فالسلطة في دول العالم الثالث لا يناسبها ان يكون القضاء مستقلاً بل تريده أن يحمي مصالحها، أما مصير أمثال قردوحي في القضاء برأيه فهو: إما العمل بصمت وإما الاستقالة من السلك القضائي.
الساكتون عن الحق
مقومات نجاح الثورة القضائية غير متوفرة، يستنتج ماضي، لكنه يرفض تشبيه زمن سهيل عبود بزمن مدعي عام التمييز السابق عدنان عضوم، "فلا مجال للمقارنة بين زمنين"، فيما يعلق مصدر قضائي آخر يفضل عدم الكشف عن اسمه بالقول "يا محلا إيام عضوم، عالقليلة وقتا كان في هيبة للقضاء".
ولا يبدو أن سيناريو القاضي الايطالي أنطونيو دي بييترو الذي أعلن الحرب على الفساد قابل للتحقق في لبنان، فلا القضاة المنتفضين هم في مناصب قضائية عليا، ولا يبدو أن هناك انتفاضة قضائية بالمعنى الجماعيّ. لكن هذا الواقع لن يمنع أصواتاً مثل قردوحي من التمرد ولو بشكل فردي، على قاعدة أن الساكت عن الحق شيطان أخرس. وحتى في جهنم اللبنانية، ليس كل القضاة "شياطين".