مذيعة "الإخبارية السورية" المتخفية.. في التاكسي!
تنّكرت المذيعة السورية، ربى الحجلي، وصوّرت تقريراً كاملاً في السر من دون أن يدري أحد، لصالح برنامجها "فن الممكن" على شاشة "الإخبارية السورية". لكنها لم تتوجه، للحصول على "السكوب"، إلى المعتقلات الأمنية ولا دوائر المخابرات ولا الشعب البعثية وبيوت المسؤولين وقادة المليشيات، ولا إلى القصر الجمهوري وكواليس التلفزيون الرسمي. ولم تكشف الفساد ولم تزل اللثام عن أسرار حكومية. بل كانت الخبطة الصحافية التي لاحقتها هي "طمع سائقي سيارات الأجرة" في دمشق.
وارتدت الحجلي قبعة ومعطفاً كبيراً ونظارات شمسية، وكأنها فعلاً تريد أن تقوم بدور الصحافية الاستقصائية المتخفية، لكن النتيجة كانت كاريكاتورية ومعيبة في آن واحد. فالمذيعة المشهورة بالتشبيح والعلاقات مع الدوائر الأمنية، لدرجة تغلبها في وقت سابق على وزيرين معاً حاولا فصلها من عملها، راحت توقف السائقين الفقراء المساكين في الشارع وتطلب منهم إيصالها إلى أماكن مختلفة في العاصمة بأسعار لم تكن ربما مقبولة قبل انهيار قيمة الليرة السورية، ثم تلومهم على طمعهم وقلة أخلاقهم وعدم التزامهم بالقانون، مع ضيوفها في الاستديو.
وفي بلد يعاني أزمات اقتصادية متعددة وانهارت فيه العملة الوطنية مقابل العملات الرئيسية، ولا تتوافر فيه المحروقات ولا الكهرباء بسبب السياسات الحكومية وسلطة المليشيات ونفوذ المسؤولين ورجال الأعمال المتحكمين في السوق، فإن لَوم الأفراد على خياراتهم البسيطة غير المؤذية أصلاً، من أجل البقاء على قيد الحياة، يتجاوز الانحطاط الأخلاقي بمراحل، خصوصاً عندما يأتي من أشخاص يعرّفون عن أنفسهم بوقاحة بأنهم "صوت الناس" و"ناقلو الحقيقة"، وغير ذلك من التسميات التي يطلقها إعلاميو النظام على أنفسهم.
أكثر ما يثير الاستفزاز في الحلقة ككل، سواء في التقرير المصور بالسر أو في تعليقات ضيوف الاستوديو من أصحاب الكروش الكبيرة والرتب العسكرية في الجيش السوري، هي تكرار مقولات مثل أن السائقين سيئون وطماعون، وكأنهم يحاولون امتصاص دم نظرائهم من المواطنين من أجل تكديس الأموال وجمع الثروات، وليس لأنهم فقط يحاولون جمع قوت يومهم في بلد ترتفع فيه الأسعار بشكل جنوني لدرجة أن أكثر من 85% من السوريين داخل البلاد يعيشون تحت خط الفقر بينما يهدد الأمن الغذائي أكثر من 60% من السكان، بحسب الأمم المتحدة. من دون نسيان ما تقوم به شرطة المرور تجاه السائقين من مخالفات وأتاوات وغير ذلك، منذ ما قبل الثورة.
وتعيش سوريا أزمة محروقات منذ سنوات، وبسببها تنتشر صور مروعة لحشود من السوريين يتزاحمون ويتشاجرون من أجل ركوب باص، أو صور أخرى لأفراد يقتحمون "السرفيس" من النافذة من أجل الحصول على معقد، أو صور لتلامذة يتوجهون إلى مدارسهم في سيارات مخصصة لنقل القمامة، علماً أن النظام السوري أصدر تعميمات وقرارات مختلفة بمنع تصوير الطوابير تحت طائلة الاعتقال بتُهم مثل "وهن نفسية الأمة"، بالتوازي مع خفض حصص توزيع البنزين والمازوت على السكان العام الماضي.
وشهدت أسعار المحروقات زيادات مستمرة. ففي بداية العام 2021، كانت حكومة النظام توزع البنزين المدعوم بسعر 450 ليرة، وغير المدعوم بـ650 ليرة، أما ليتر البنزين 95 أوكتان فكان بسعر 1050 ليرة، والمازوت الصناعي والتجاري بـ650 ليرة، علماً أن سعر صرف الدولار مطلع العام كان في حدود 2900 ليرة. لكن تلك الأسعار ارتفعت، وبلغت في نهاية العام الماضي 1100 ليرة سورية لليتر البنزين المدعوم، بينما وصل سعر البنزين 90 أوكتان إلى 2500 ليرة، وكلاهما بحد أقصى قدره 40 ليتراً شهرياً، فيما كان سعر ليتر بنزين 95 أوكتان 3000 ليرة، وتم شطب بند البنزين المدعوم، ووصل سعر ليتر المازوت الصناعي والتجاري إلى 1700 ليرة بحد أقصاه 40 ليتراً شهرياً، علماً أن سعر صرف الدولار يبلغ حالياً قرابة 3600 ليرة، وتتضاعف تلك الأسعار في السوق السوداء، من دون إجراء تعديلات على العداد نفسه في سيارات الأجرة المحلية.
بالطبع، لا ترى الحجلي ذلك كله، بل تتمادى في تقديم ما بات ركيزة ثابتة ضمن الإعلام الرسمي، وهي لوم السوريين على العجز الرسمي والترهل الحكومي، بدلاً من لوم مرافق الدولة السورية المهترئة والضعيفة، رغم كل ما يعانيه السوريون من ضغوط اقتصادية وسياسية واجتماعية. كما يحول ذلك الخطاب، مشاكل البلاد، إلى مسألة شخصية، بدلاً من كونها قضية عامة تشكل جزءاً من الأسلوب البعثي في الحُكم، والقائم منذ عقود على خنق السوريين اقتصادياً ومعيشياً وتعبيرياً، لمنعهم من تحدي السلطات والمطالبة بحقوقهم الطبيعية.
وتُعتبر الحجلي واحدة من أشهر إعلاميات النظام خلال السنوات العشر الأخيرة، مع تصدرها المشهد الإعلامي في كل الأحداث الكبرى، بما في ذلك مفاوضات جنيف أو الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وغيرها. ومع برامجها الخاصة بـ"ملاحقة الفساد" و"طرح قضايا المواطن"، استطاعت الحجلي تحويل نفسها إلى "بطلة وطنية" لدى الشارع الموالي، الذي ما زال يتابع الإعلام الرسمي في حال توافرت له الكهرباء، ليشكل التشبيح وغياب الأخلاق المهنية بالنسبة إلى ذلك الجمهور، سبباً لنيل الإعجاب في الواقع. ولا يمكن نسيان حوادث سابقة للحجلي، إذ تفننت في إظهار تلك اللامهنية، كالشتائم التي أطلقتها بحق وفد المعارضة المشارك في مؤتمر "جنيف 6" للسلام العام 2017، ما استدعى طردها من مقر الأمم المتحدة وسحب بطاقة التصريح الإعلامي الخاص بها.
وبالطبع تعتقد الحجلي أنها ذكية وأنها حققت خبطة صحافية لا يقوم بها أي من زملائها الآخرين الذين لا يرتدون أزياء تنكرية لإجراء تحقيقات في الشارع، كما أنها تعتقد أن ما تقوم به يعتبر إعلاماً بالفعل، وذلك صحيح تقنياً لأنها، كزملائها العاملين في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، تمارس الدور الدعائي المطلوب منهم وفق معنى ومحددات الإعلام في دولة شمولية وسلطوية مثل سوريا الأسد، حيث تتلخص مهمة الإعلام في الدفاع عن الدولة باعتباره صوتاً لها، لا أكثر.
تلميع صورة (ما تبقى من) الدولة، هو الهدف النهائي لهذه البرامج التي يتم تناقلها ونشرها في مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة، مع عبارات طنانة: "شاهد قبل الحذف".. وكأن ما قامت به الحجلي معجزة، ستقض مضاجع الفساد لدرجة ملاحقتها أمنياً! ومع وضع السوريين ضد بعضهم البعض في فئات متصارعة، يحاول الإعلام الرسمي تبرئة الدولة السورية وأجهزتها من المشاكل الحالية واللاحقة.
والأسوأ من ذلك أن التعليقات والحوارات تنقل أفكاراً سامة، مثل أن الشعب السوري يحمل صفات التخلف والهمجية والغباء والانتهازية والسوء والشر والطمع. وفيما يكون الحديث منصباً على الجانب الخدمي والإداري، فإنه ينتقل فجأة إلى المستوى السياسي، يقول بموجبه الأسديون أن ما يمنع رئيسهم "المفدى" بشار الأسد من الوصول للحكم الرشيد الذي يبتغيه منذ عقدين، هو الشعب السوري نفسه الذي لا يمكن حكمه سوى بالقوة والقمع. ويجعل ذلك كل ما قام به النظام، خلال السنوات الماضية، ضد الشعب السوري، مبرراً وطبيعياً لأن الخلل في سوريا يكمن في الشعب الجاحد الذي يجب تربيته والعمل على تصفيته وخلق "مجتمع أكثر تجانساً"، وهي عبارات خرجت من فم الأسد شخصياً ضمن خطابات ولقاءات إعلامية.