بين القُبلة والسكين.. "الإيموجي" جريمة في سوريا!
يضاف قرار تجريم استخدام الرموز التعبيرية "إيموجي" في سوريا إلى لائحة طويلة من القوانين والقرارات التي يصدرها نظام الأسد بشأن الإنترنت في البلاد، مثل "متابعة الصفحات المشبوهة"، وتظهر بوضوح نوعية السلطة الحاكمة في البلاد والتي تبدو حجرية ومتعفنة على الصعيد الفكري/الحضاري مثلما هي متوحشة وإجرامية على الصعيد الإنساني.
وضمن منطق الوصاية الفكرية على السوريين، أعلن رئيس فرع مكافحة جرائم المعلوماتية في وزارة الداخلية السورية، لؤي شاليش، أن الرموز التعبيرية يمكن أن تورط صاحبها في "الجريمة الإلكترونية"، وهي التهمة التي بات النظام يلاحق السوريين ممن يرفعون صوتهم للشكوى والانتقاد في مواقع التواصل خلال السنوات الأخيرة. وفي خبر نشره موقع "البعث" عن الموضوع، أورد أمثلة عن "إيموجي" القُبلة (كتحرّش)، والسكين (كتهديد بالقتل)، والحيوانات (كشتائم).
ورغم أن شاليش تحدث عن استخدام الرموز التعبيرية بطريقة خاطئة كشرط لحصول جريمة إلكترونية، فإن ذلك ليس كافياً للقول أن القرار عادل، من دون الحديث عن مدى لا عصريته أو السخرية التي يحملها بحد ذاته حتى ضمن بلد شمولي مثل "سوريا الأسد" الذي تتفوق فيه السلطة الحاكمة على نفسها كل مرة في مستوى "التفاهة" الذي تنحدر إليه، وكأنها تحول نفسها بنفسها إلى مادة للتندر حتى من قبل أولئك المحكومين بها، الذين وإن كانوا يشعرون بالرعب منها لسبب البطش الأمني، يدركون في الوقت نفسه تفاهة السلطة وعريها ووحشيتها في آن معاً، ما برز بوضوح في ردود الأفعال في مواقع التواصل.
وهنا، تصبح "الإيموجي" مجرد تهمة أخرى يمكن إلصاقها بالمتهمين، عند الحاجة، مثل العشرات من التهم العشوائية في سوريا، ما يحولها بالتالي إلى مجرد أسلوب للتشبيح على المدنيين والناشطين بثوب قانوني مهذب، يظهر فيه النظام نفسه على أنه سلطة متحضرة تنتمي للقرن الحادي والعشرين رغم كونه مجرد عصابة استولت على السلطة بانقلاب عسكري العام 1970، بكل ما يحمله التعبير من معنى.
ولفترة طويلة عانى النظام من الإنترنت وبدا لسنوات أنه لا يعرف كيف يتعامل مع الثورة التقنية التي حرمته أحد أهم أسلحته وهي التحكم بالمعلومات والضخ الموجه والرقابة المسبقة. لكنه في السنوات الأخيرة بات يسيطر على الإنترنت في البلاد بداية من تحويل خدمة الإنترنت السيئة أصلاً إلى نظام الباقات باهظ الثمن وفرض عقبات تقنية على تصفح المواقع غير المرغوب بها وصولاً إلى الرقابة والاعتقالات التعسفية بموجب قوانين الجريمة الإلكترونية، والتي طالت حتى إعلاميين موالين مثل المذيعة في التلفزيون السوري هالة الجرف قبل أشهر.
وفيما تُكرّس لغة واحدة للتعبير، بات الموالون الذين استماتوا في الدفاع عن النظام متخيلين أنه بوابتهم إلى الحرية الموعودة إبان الثورة السورية التي طالبت بتلك الحرية أصلاً، يدركون ربما أن الموالاة ليست مهمة سهلة ومريحة حتى بعد "النصر على الإرهاب" و"هزيمة المؤامرة الكونية"، لأن ذلك الولاء يعني حكماً الحياة تحت شروط قاسية تبدأ من الإذلال الاقتصادي اليومي في طوابير الانتظار لتحصيل الحاجات الأساسية اليومية من الخبز إلى البنزين، ثم الخدمة العسكرية الإلزامية التي تبدأ ولا تنتهي، وصولاً إلى ضرورة تقديم الشكر وإظهار الامتنان والمشاعر الوطنية لـ"القيادة الحكيمة" على ذلك الإذلال الممنهج وعبر لغة النظام ومفرداتها بنسبة 100% حصراً.
ولا تشكل "الإيموجي" على ما يبدو جزءاً من تلك المفردات الرسمية الخشبية.. كيف يمكن الهتاف مثلاً "بالروح بالدم نفديك يا بشار" "عبر "الإيموجي" فقط؟ حتى الذكاء الصناعي سيقف عاجزاً أمام ذلك الإعجاز اللغوي. وبالطبع، فإن الضحك هو رد فعل طبيعي على ذلك، لكنه ضحك مرير، خصوصاً أنه يتوازى مع دعاية النظام السوري وتصويرها للبلاد على أنها جنة حقيقية تتفوق على كافة دول العالم في الإبداع والحريات واحترام حقوق الإنسان وصون الكرامة البشرية. علماً أن المشكلة الأساسية في تهم العمالة الجاهزة التي باتت "الإيموجي" واحدة منها أخيراً، تكمن في كونها عبارات فضاضة ضمن النصوص القانونية والدستورية التي يفترض أن تكون شديدة الوضوح والدقة.
وهي بالتالي ليست سوى طريقة تقمع بها الدول الدكتاتورية مواطنيها بـ"قوة القانون"، حيث يسمح حيز الميوعة الموجود في تلك التركيبات اللغوية كـ"وهن نفسية الأمة" أو "إضعاف الشعور القومي" و"النيل من هيبة الوطن"، للسلطة الحاكمة بتوجيه اتهامات غامضة لكل من يخالفها، لأغراض سياسية أو انتقامية أو شخصية، وهو ما حصل مثلاً في قضية الممثل الموالي لنظام الأسد مصطفى الخاني، العام 2017، بعد اعتقاله والتحقيق معه بتهمة "الإساءة لرموز الدولة" بدفع من سفير النظام لدى الأمم المتحدة حينها بشار الجعفري، بعد خلافات شخصية نتجت عن طلاق الممثل الشهير بدور "النمس" في سلسلة "باب الحارة"، من ابنة الجعفري، يارا.
والحال أن عدد الضبوط المسجلة لدى فرع الجرائم الإلكترونية خلال العام 2020 الماضي تجاوز 2300، معظمها من نوعية جرائم السب والشتم والتشهير التي وصلت نسبتها إلى 70% من إجمالي الضبوط المنظمة. وفيما يبدو ذلك وردياً إلا أن تلك التهمة تلاحق عادة الصحافيين الموالين والناشطين والمدنيين الذي يشتكون من تردي الخدمات وانهيار الاقتصاد وانعدام الخبز والكهرباء وأساسيات الحياة. حيث يعمد موظفون رسميون عادة إلى تقديم شكاوى بالسب والتشهير ضدهم شخصياً أو ضد مؤسسات "الدولة السورية".
وبهذا الأسلوب يتم تغليف القمع وتقديمه على أنه مجرد قضايا شخصية بحتة، علماً أنه قبل العام 2018 لم تكن في البلاد محاكم متخصصة في الجرائم الإلكترونية، بل كان يتم تحويل المتهمين بمس هيبة الدولة مثلاً، إلى محكمة قضايا الإرهاب غالباً، لكن وزير العدل السوري السابق نجم الأحمد، كشف حينها أن الوزارة بصدد إحداث محاكم متخصصة بمكافحة الجرائم الإلكترونية لأنها "كانت جزءاً من الحرب المعلنة على سوريا واستخدمت بغية التحريض على الأعمال الإرهابية" حسب توصيفه الذي يظهر تعريف النظام الواضح لماهية الجريمة المعلوماتية/الإلكترونية.
وفي بلد تختنق فيه الحريات أكثر من أي وقت مضى، لم يخفِ النظام يوماً رغبته في تطبيق أكبر تحكم ممكن بالمعلومات في البلاد، للعودة بالزمن إلى حقبة الثمانينات "الذهبية"، عندما كان الحجب والتعتيم من الأمور البسيطة والمستطاعة في ظل تقنيات ذلك الزمن. ومع صعوبة عزل البلاد بالكامل عن الشبكة العالمية، أو فرض حجب تقليدي على المحتوى الإلكتروني غير المرغوب، باتت قوانين الجريمة الإكترونية هي المدخل لتلك السيطرة التي تزيد منها الصعوبات التقنية، حيث لا يمكن تصفح الإنترنت من دون الكهرباء التي تنقطع لنحو 20 ساعة يومياً.
ويبدو هنا أن النظام يحاول تفادي "الأخطاء" التي ارتكبها بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة والتي أدت وفق المنطق السلطوي إلى الثورة لاحقاً، أي إعطاء بعض الحريات المدنية والمعلوماتية مقارنة بحقبة حكم والده الحديدية السابقة. ويمكن القول أن النظام في كافة أفعاله مؤخراً يسعى إلى التخلي عن ملامح "الضعف" من أجل فرض "هيبة الدولة" على المواطنين، سواء بفرض الرقابة المشددة على الإعلام أو اعتقال الإعلاميين والمدنيين، حتى من الموالين الذين ينتقدونه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وصولاً للقوانين المشددة الخاصة بالإنترنت، ومنها قوانين الجريمة الإلكترونية.