نظام الأسد يحيي تهمة "وهن نفسية الأمة" قبل الانتخابات
في موقع "Urban Dictionary" (القاموس الحضري)، مصطلح مثير للاهتمام هو "سوريا فوبيا" (SyriaPhobia)، ويعني حرفياً الخوف من البقاء في سوريا، طوّره جيل الألفية السوري كنوع من القلق الجماعي من الحياة في بلد يغرق في مشاكله ونيرانه. ويمكن توسيعه ربما ليصبح أشبه بهوية وحيدة تجمع السوريين اليوم، على اعتبار أن الهوية السورية نفسها كمفهوم وطني (Nationalism) لم تكن أكثر من وهم رومانسي أثبتت الحرب في البلاد هشاشته.
لا يتعلق الأمر هنا بلعب دور الضحية جماعياً بقدر ما يشير إلى حقيقة دور النظام السياسي الحاكم في توليد البؤس على مدى عقود مع فقدان الأمل بالتغيير لأسباب متعددة. ويصبح نظام الأسد هنا المسؤول الأول والأخير عن "وهن نفسية الأمة" بمعنى تحطيم نفسية السوريين لإخضاعهم، عبر إبقائهم مشغولين بالحاجات الأساسية، مع ترهيبهم الدائم بشتى الطرق. وهي تهمة ترد في النصوص القانونية كذريعة يعتقل بها النظام ويلاحق كل من يخالفه في الرأي، ويعرفها كل من عاش في سوريا أو شاهد مسلسلاً سورياً أو عرف عن البلاد قليلاً من المعلومات، لكونها عنصراً ثابتاً في الحياة السورية منذ عقود.
وعادت التهمة إلى الواجهة، الأسبوع الماضي، مع الأنباء المتداولة عن توجيهها لناشطين وموظفين رسميين من بينهم الإعلامية القديمة في التلفزيون السوري هالة الجرف، اعتقلتهم الأجهزة الأمنية وأصدرت وزارة الداخلية السورية بياناً علنياً بشأنهم، في خطوة تهدف ربما إلى إعطاء انطباع بأن الدولة البوليسية في سوريا استعادت عافيتها وتعيد بناء حاجز الخوف الذي كسرته الثورة السورية قبل سنوات، لتتم إعادة البلاد إلى حقبة ما قبل العام 2011، بالرهان على حكم البلاد مجدداً بقبضة حديدية مثلما كان عليه الحال خلال ثمانينيات القرن الماضي.
ويعني ذلك أن النظام السوري يسعى إلى إعادة تكريس جذوره القمعية بالقول أن الثورة كانت حادثاً عرضياً خارجياً انتهى، وأن المواطنة في سوريا الأسد تقتضي الخضوع التام للقيادة، وإلا كانت هنالك عقوبات وخيمة بالمرصاد. ويصبح اعتقال أشخاص مثل الجرف مهماً، لما يحمله من رمزية للعقاب الذي يطاول حتى "الشخصيات العامة"، في حال خالفوا خطاب السلطة الرسمية، ليس فقط على صعيد الأفكار مثل الجرف التي تحدثت عبر صفحتها الشخصية في "فايسبوك" عن الفساد والواقع المعيشي المتردي للسوريين، بل أيضاً من ناحية المفردات المستخدمة للتعبير عن الولاء نفسه، كما حصل العام 2019 مع الممثلين عباس النوري وعابد فهد وأمل عرفة الذين منعوا لفترة قصيرة من الظهور في "الإعلام الوطني"، بما في ذلك التراجع عن بث لقاءات إذاعية وتلفزيونية معهم، بسبب تعليقات بسيطة في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويعتبر ذنب الجرف شديداً لأنها تعمل في "الإعلام الوطني" ما يحتم عليها الالتزام بمفردات السلطة. ورغم أنها شاركت في حملة الدفاع عن النظام وتلميع صورته بعد الثورة السورية، على حساب الشعب السوري، فإنها هذه المرة تضامنت مع من تبقى من ذلك الشعب في ظل أوضاع اقتصادية ومعيشية مزرية، حيث يقبع أكثر من 80% من السوريين تحت خط الفقر حسب إحصاءات الأمم المتحدة. ورغم أن الحديث عن هذه المقاربة حاضر في الإعلام الرسمي إلا أنه يربط حصراً بالعقوبات الغربية، مع إظهار الرئيس بشار الأسد كشخص وطني نبيل يحارب الفساد المدعوم من الخارج.
وعليه فإن إسقاط تلك المقاربة الهزلية من منشورات الجرف، جعلها شريكة في المؤامرة الكونية على ما يبدو، خصوصاً أن النظام يروج للانتخابات المقبلة ويحشد إعلامه لمزيد من التلميع، بموازاة اجتماع غامض بين الأسد وعدد من العاملين في الإعلام الرسمي الشهر الماضي، لم تصدر عنه تسريبات محددة مقابل تقديرات بأن يكون اللقاء ركز على رسم صورة للمشهد الإعلامي في البلاد قبيل الانتخابات المقبلة، بحيث يسقط ملف الفساد من التغطيات الإعلامية بعكس الأشهر القليلة الماضية، التي كان فيها الملف حاضراً طوال الوقت على الشاشات الرسمية، كطريقة لامتصاص غضب الشارع عبر الإيحاء بوجود "متابعة إعلامية حثيثة" للواقع الخدمي.
والحال أن المشكلة الأساسية في هذه النوعية من تهم العمالة الجاهزة تكمن في كونها عبارات فضاضة ضمن النصوص القانونية والدستورية التي يفترض أن تكون شديدة الوضوح والدقة. وهي بالتالي ليست سوى طريقة تقمع بها الدول الدكتاتورية مواطنيها بـ"قوة القانون"، حيث يسمح حيز الميوعة الموجود في تلك التركيبات اللغوية كـ"وهن نفسية الأمة" أو "إضعاف الشعور القومي" و"النيل من هيبة الوطن"، للسلطة الحاكمة بتوجيه اتهامات غامضة لكل من يخالفها، لأغراض سياسية أو انتقامية أو شخصية، وهو ما حصل مثلاً في قضية الممثل الموالي لنظام الأسد مصطفى الخاني، العام 2017، بعد اعتقاله والتحقيق معه بتهمة "الإساءة لرموز الدولة" بدفع من سفير النظام لدى الأمم المتحدة حينها بشار الجعفري، بعد خلافات شخصية نتجت عن طلاق الممثل الشهير بدور "النمس" في سلسلة "باب الحارة"، من ابنة الجعفري، يارا.
وإن كانت التهمة تلاحق السوريين اليوم بسبب نشاطهم في مواقع التواصل الاجتماعي، فإنها ليست جديدة أو طارئة، بقدر ما هي قديمة قِدَم النظام نفسه ولا تقتصر على حقبة حافظ الأسد الحديدية المخيفة طوال ثلاثين عاماً منذ استيلائه على السلطة في انقلاب عسكري العام 1970، بل كانت حاضرة في السنوات العشر الأولى من حكم ابنه بشار أيضاً، بعكس ما يروج ناشطون موالون للنظام وشخصيات محسوبة عليه في وسائل الإعلام يتحدثون عن انفتاح وإصلاح مزعومين ينفون بموجبهما الحاجة إلى ثورة في البلاد.
ويمكن الدلالة على ذلك بتقرير منظمة "هيومان رايتس ووتش" الصادر العام 2010 عن حالة حقوق الإنسان في البلاد خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، حيث اعتقل عشرات الصحافيين والحقوقيين. وخلصت المنظمة إلى أن محكمة أمن الدولة حكمت بين كانون الثاني/يناير 2007 وحزيران/يونيو 2008 فقط، على ما لا يقل عن 10 كتاب ومدونين انتقدوا السلطات، كما أدانت 153 متهماً على أساس أحكام أمنية فضفاضة. وإن كان ذلك محدداً بوجود قانون الطوارئ في البلاد، فإن إلغاء القانون بعد الثورة السورية العام 2011 لم يغير من الواقع، حيث بات "فرع مكافحة جرائم المعلوماتية" في الأمن الجنائي التابع لوزارة الداخلية، بديلاً منذ تأسيس بالمرسوم 17 للعام 2012، لـ"تمثيل الدولة السورية من أجل ملاحقة الحق العام إلكترونياً عندما لا يكون هناك ادعاء شخصي بجريمة إلكترونية ما".