لبنان.. يجب أن نتكلم
لبنان،
أكتب لك اليوم، بمناسبة عيد ميلادك، مع العلم أني أردت كتابة هذه الرسالة منذ أن انفصلنا في أيلول 2020، لكنك تعلم كم أحب المناسبات، وكم يستهويني ربط التواريخ بأحداثٍ وذكريات.. فها نحن اليوم.
أكتب لك اليوم لأني بحاجة لتقييم علاقتنا التي دامت 33 عاماً، أمضينا منها ثلاثين سوية، وثلاثة أخرى كانت لتعارفنا في البداية من بعد.
في تلك الأعوام الثلاثة، رسمتُ لك صورة بحسب ما نُقل لي عنك. أحببتك بصدقٍ طفوليٍ رفع صورتك تلك إلى مرتبة الأيقونة، فعبدتك.
كنتَ مثالياً، وسيماً، عصامياً، مقاوماً ومحباً للحياة.
كنت عنيداً، قوياً وذا شعبيةٍ كبيرة.
أدمعتَ عينَي أمي كلما جاء ذِكرُك، طوال أعوام الحرب التي أجبرتها وأبي على الهجرة، فكنتَ دمعتي أيضاً.
بالنسبة إلى أبي وأمي اللذين ولدا من ديانتين مختلفتين (متقاتلتين منذ العام 1975)، كان الابتعاد عنك في عيد زواجهما ضرورة، تماماً كضرورة خلقهما لسردية وطنية، شكّلت لعائلتهما الصغيرة نقطة جامعة وبُوصلة وجودية. أحببتك لأنك بوصلتي ونقطة الالتقاء الوحيدة لعائلتي. كوّنتُ شخصيتي حولك، وجعلتُ من نفسي ضلعك. ذبتُ فيك حتى لم يعد لي وجود من دونك.
لم تكن سهلة حياتنا معاً بعد تلك الأعوام التأسيسية، إذ أن أهلك جهدوا لتصنيفي منذ انتقالي للعيش معك، ووجدوا في وجه طفلة الأعوام الثلاثة طيف عدوٍ وظِلَّ مقاتلٍ مليشيويٍ أرعبهم طوال 15 عاماً.. مقاتل يبدل البارودة من كتفٍ مُسلمةٍ إلى كتفٍ مسيحيةٍ وفقاً لحكم الرائي المواجه له.
طُلب مني أن أختار، أن أجلس في علبة، أن أشطب خانة، سَمِّها ما شئت... حاجة أهلك لتعليبي لم تتوقف يوماً. لم أكن مُهيئة لهكذا استقبال، ولم تكن الصورة مطابقة لأيقونتي، لكني اعتقدت أن التغيير الذي يطلبونه سيسمح لنا بالبقاء معاً.
فلنسمّي تلك المرحلة النكران، لأن من ينشط سياسياً واجتماعيا منذ المراهقة، ويناضل في سبيل قضايا عديدة منها طرد الاحتلال السوري من لبنان والكشف عن مصير المفقودين، فصل الدين عن الدولة، وتحسين حقوق المرأة في العمل السياسي وفي الحياة المدنية... مَن يتظاهر للمطالبة بتحرير الملكية العامة، بإطلاق سراح الأسير جورج عبدالله، بإسقاط النظام الطائفي (2011)، بالانقلاب على الطبقة السياسية الحاكمة (2015-2016 و2019)، وضد التمديد للمجلس النيابي (2013).. من يقوم بذلك كله وأكثر، يعيش حكماً حالة إنكار. إذ يعتقد أن في إمكانه تغيير مَن يحب كي يتمكن من مشاركته قيماً ومبادئ أساسية من أجل العيش معاً بوضوحٍ وقناعة.
لم يقتصر ذلك النكران على رفضي التسليم بأنك لن تتغير، وأن شيئاً لن يجمعنا، بل تعداه لكون ذلك النكران انضوى على رفضي الاعتراف بتعنيفك.
لبنان، لقد قتلتَ كل من أحب، وحاولتَ قتلي مراراً، واسترسلتَ في ترهيبي بلا توقف.
لقد أحصيتُ مؤخراً الأحداث الأمنية التي وقعت بين العامين 1990 و2020، ففاق عددها الستين حدثاً، من اغتيالات وانفجارات واشتباكات متنقلة وحروب صغيرة، كان آخرها في 4 آب 2020، الذي شكل لحظة يقيني بأن علاقتنا سامّة، عنيفة، أحادية الجانب وغير قابلة للاستمرار.
لم تحبّني يوماً، ولم يقبلني أو يتقبلني أهلُك يوماً. كانت للجميع نظريات عني، عن هويتي، عن معتقداتي، عن جنسي، عن أفكاري ومبادئي، حتى عن شكلي.
لم تكن يوماً قوياً، بفعل خضوعك لسلطة أمك، وعمك، وأشقائك، وجيرانك.
لن أغيّرك، ولا أريد أن أتغير لأشبهك. آلمتَني كثيراً، وربما أمضي ما تبقى من أيامي في محاولة الشفاء منك.
يقال إن للانفصال مراحل، لكل منها أحاسيسها، لا أعلم إن كانت تنطبق على حالتنا هذه. لكن، على أي حال، إعلَم أني أكرهُك، على قدر ما أحببتك. وأكرههم أكثر، على قدر ما حاولتُ تفهم طائفيتهم، وعنصريتهم، وطبقيتهم، وادعائهم.
كما تعلَم، قطعتُ كلّ صِلتي بك وبأهلك، منذ رحيلي من البيت. أوف من كلمة البيت.
أتعلم؟ للتعبير عن حبها لنا، اعتادت جدتي أن تدللنا بعبارة "يا بيتي". مرّت أعوام قبل أن أربط بين تلك العبارة، والبيت الذي اعتدتُ رسمه. لم أفهم لمَ قد يكون أحدهم بيتاً، ولمَ قد تكون تلك عبارة دلال. أعلم أنا هناك "يا عمري"، و"يا قلبي" و"يا روحي".. لكن "يا بيتي" بقيت لغزاً بالنسبة إلي. بعد انفصالي عنك، استعدتُ جملة التيتا، وفهمت أخيراً قوة وعمق المعنى فيها. كنتَ بيتي ولم تعد. لكن لا يهم، قد أجد شريكاً جديداً يكون بيتي، وإلا فسأكون أنا بيتي.
لا تبحث عني، سأغيّر إسمي الذي جهد أهلك لتصنيفه. أفكّر في ميلا، تميل مع الرياح ولا خانة لها.
ملاحظة: تصلني أخبارك من أهلي، وأعلمُ أنك تحتضر. أحاول جاهدة ألا أتعقبك، أسترق النظر بين الحين والآخر، إلى جاد غصن، الخيط الأخير بيننا. لا أعلم إذا ما كنتُ سأتوقف عن مشاهدته قريباً أو أنني سأنتظر حتى يتركك هو أيضاً.
أكتب لك اليوم لأني بحاجة لتقييم علاقتنا التي دامت 33 عاماً، أمضينا منها ثلاثين سوية، وثلاثة أخرى كانت لتعارفنا في البداية من بعد.
في تلك الأعوام الثلاثة، رسمتُ لك صورة بحسب ما نُقل لي عنك. أحببتك بصدقٍ طفوليٍ رفع صورتك تلك إلى مرتبة الأيقونة، فعبدتك.
كنتَ مثالياً، وسيماً، عصامياً، مقاوماً ومحباً للحياة.
كنت عنيداً، قوياً وذا شعبيةٍ كبيرة.
أدمعتَ عينَي أمي كلما جاء ذِكرُك، طوال أعوام الحرب التي أجبرتها وأبي على الهجرة، فكنتَ دمعتي أيضاً.
بالنسبة إلى أبي وأمي اللذين ولدا من ديانتين مختلفتين (متقاتلتين منذ العام 1975)، كان الابتعاد عنك في عيد زواجهما ضرورة، تماماً كضرورة خلقهما لسردية وطنية، شكّلت لعائلتهما الصغيرة نقطة جامعة وبُوصلة وجودية. أحببتك لأنك بوصلتي ونقطة الالتقاء الوحيدة لعائلتي. كوّنتُ شخصيتي حولك، وجعلتُ من نفسي ضلعك. ذبتُ فيك حتى لم يعد لي وجود من دونك.
لم تكن سهلة حياتنا معاً بعد تلك الأعوام التأسيسية، إذ أن أهلك جهدوا لتصنيفي منذ انتقالي للعيش معك، ووجدوا في وجه طفلة الأعوام الثلاثة طيف عدوٍ وظِلَّ مقاتلٍ مليشيويٍ أرعبهم طوال 15 عاماً.. مقاتل يبدل البارودة من كتفٍ مُسلمةٍ إلى كتفٍ مسيحيةٍ وفقاً لحكم الرائي المواجه له.
طُلب مني أن أختار، أن أجلس في علبة، أن أشطب خانة، سَمِّها ما شئت... حاجة أهلك لتعليبي لم تتوقف يوماً. لم أكن مُهيئة لهكذا استقبال، ولم تكن الصورة مطابقة لأيقونتي، لكني اعتقدت أن التغيير الذي يطلبونه سيسمح لنا بالبقاء معاً.
فلنسمّي تلك المرحلة النكران، لأن من ينشط سياسياً واجتماعيا منذ المراهقة، ويناضل في سبيل قضايا عديدة منها طرد الاحتلال السوري من لبنان والكشف عن مصير المفقودين، فصل الدين عن الدولة، وتحسين حقوق المرأة في العمل السياسي وفي الحياة المدنية... مَن يتظاهر للمطالبة بتحرير الملكية العامة، بإطلاق سراح الأسير جورج عبدالله، بإسقاط النظام الطائفي (2011)، بالانقلاب على الطبقة السياسية الحاكمة (2015-2016 و2019)، وضد التمديد للمجلس النيابي (2013).. من يقوم بذلك كله وأكثر، يعيش حكماً حالة إنكار. إذ يعتقد أن في إمكانه تغيير مَن يحب كي يتمكن من مشاركته قيماً ومبادئ أساسية من أجل العيش معاً بوضوحٍ وقناعة.
لم يقتصر ذلك النكران على رفضي التسليم بأنك لن تتغير، وأن شيئاً لن يجمعنا، بل تعداه لكون ذلك النكران انضوى على رفضي الاعتراف بتعنيفك.
لبنان، لقد قتلتَ كل من أحب، وحاولتَ قتلي مراراً، واسترسلتَ في ترهيبي بلا توقف.
لقد أحصيتُ مؤخراً الأحداث الأمنية التي وقعت بين العامين 1990 و2020، ففاق عددها الستين حدثاً، من اغتيالات وانفجارات واشتباكات متنقلة وحروب صغيرة، كان آخرها في 4 آب 2020، الذي شكل لحظة يقيني بأن علاقتنا سامّة، عنيفة، أحادية الجانب وغير قابلة للاستمرار.
لم تحبّني يوماً، ولم يقبلني أو يتقبلني أهلُك يوماً. كانت للجميع نظريات عني، عن هويتي، عن معتقداتي، عن جنسي، عن أفكاري ومبادئي، حتى عن شكلي.
لم تكن يوماً قوياً، بفعل خضوعك لسلطة أمك، وعمك، وأشقائك، وجيرانك.
لن أغيّرك، ولا أريد أن أتغير لأشبهك. آلمتَني كثيراً، وربما أمضي ما تبقى من أيامي في محاولة الشفاء منك.
يقال إن للانفصال مراحل، لكل منها أحاسيسها، لا أعلم إن كانت تنطبق على حالتنا هذه. لكن، على أي حال، إعلَم أني أكرهُك، على قدر ما أحببتك. وأكرههم أكثر، على قدر ما حاولتُ تفهم طائفيتهم، وعنصريتهم، وطبقيتهم، وادعائهم.
كما تعلَم، قطعتُ كلّ صِلتي بك وبأهلك، منذ رحيلي من البيت. أوف من كلمة البيت.
أتعلم؟ للتعبير عن حبها لنا، اعتادت جدتي أن تدللنا بعبارة "يا بيتي". مرّت أعوام قبل أن أربط بين تلك العبارة، والبيت الذي اعتدتُ رسمه. لم أفهم لمَ قد يكون أحدهم بيتاً، ولمَ قد تكون تلك عبارة دلال. أعلم أنا هناك "يا عمري"، و"يا قلبي" و"يا روحي".. لكن "يا بيتي" بقيت لغزاً بالنسبة إلي. بعد انفصالي عنك، استعدتُ جملة التيتا، وفهمت أخيراً قوة وعمق المعنى فيها. كنتَ بيتي ولم تعد. لكن لا يهم، قد أجد شريكاً جديداً يكون بيتي، وإلا فسأكون أنا بيتي.
لا تبحث عني، سأغيّر إسمي الذي جهد أهلك لتصنيفه. أفكّر في ميلا، تميل مع الرياح ولا خانة لها.
ملاحظة: تصلني أخبارك من أهلي، وأعلمُ أنك تحتضر. أحاول جاهدة ألا أتعقبك، أسترق النظر بين الحين والآخر، إلى جاد غصن، الخيط الأخير بيننا. لا أعلم إذا ما كنتُ سأتوقف عن مشاهدته قريباً أو أنني سأنتظر حتى يتركك هو أيضاً.