الاندماج في فرنسا.. ليس توقيعاً على ورقة
في آب/أغسطس الماضي، وقَّعتُ عقد الإقامة والاندماج في الجمهورية الفرنسية، كخطوة ضرورية في رحلة لجوئي في فرنسا بعد فترة انتظار أطالتها جائحة فيروس كورونا أكثر مما يجب. ورغم أنني أعتبر نفسي مندمجاً بشكل تلقائي ضمن منظومة القيم الفرنسية، إلا أنني لم أتذمر من حضور دورة الاندماج الإلزامية على مدى أربعة أيام، كحال معظم الأشخاص الذين التقيت بهم في الأيام المتباعدة التي تلقينا فيها معلومات عامة عن تاريخ فرنسا وعلاقة الأفراد فيها بمؤسسات الدولة المختلفة.
وعلى اعتبار أنني لا أتحدث الفرنسية بعد، طلبتُ مترجماً للغة الإنجليزية، ليقيني المسبق بأن الترجمة للعربية ستكون كارثية، وهو ما تأكدت منه بعد اضطراري للمكوث على الطاولة العربية مع لاجئين من جنسيات عربية مختلفة بالإضافة لمترجمة مغربية-فرنسية، شغوفة بتقديم ملاحظاتها الجانبية وتفسيراتها لكل ما يتحدث عنه الأستاذ المحاضر، الذي صودف أنه سيكون أستاذي الخاص باللغة الفرنسية في بقية أيام الأسبوع.
ولعل هذه الثرثرة الجانبية التي أتحفتنا بها المترجمة، رغم اعتراضي على كثير منها، كانت أسوأ ما في الأيام الأربعة، فبينما تتحدث المعلومات مثلاً عن تاريخ حقوق الإنسان في فرنسا وكيفية تطور الدولة الفرنسية من عصور مظلمة لم تكن فيها تلك الحقوق موجودة أصلاً، نحو تبنيها بشكلها الحالي، تتحدث المترجمة عن كذبة حقوق الإنسان والديموقراطية، وكيف كانت فرنسا السبب في نشر العبودية والإتجار بالبشر قبل قرون، وكيف تمارس ذلك حتى اليوم، عبر الادعاء بمساعدة اللاجئين، رغم أنها السبب في تشردهم ولجوئهم عبر السياسة والحروب في دول الشرق الأوسط!
طبعاً، لا تتبنى المترجمة كلامها الأقرب لنشرة أخبار على التلفزيون السوري، بشكل رسمي، بل تقدمه على أنه حديث جانبي ودّي فقط، ولعل الأسوأ هو أن بقية الموجودين، كانوا يقفون إلى صفها. وكانت الخلاصة التي وصلوا إليها في نهاية واحدة من محادثاتهم حول تاريخ فرنسا الاستعماري، أن اللاجئين العرب يجب أن يستغلوا وجودهم في فرنسا حالياً من أجل سرقة الفرنسيين كردّ فعل مبرَّر على سرقة الدولة الفرنسية خيرات وثروات الشعوب العربية طوال مئات من السنين. بالطبع لا تنسى المترجمة أن تحدثنا عن استفادتها الشخصية من الخدمات المجانية التي تقدمها الدولة الفرنسية لها، بداية من المنزل منخفض الكلفة، وصولاً إلى التعليم المجاني الذي يحظى به أطفالها في المدارس والجامعات.
كنت مستاء بشكل واضح ربما مع نهاية اليوم الثالث للدورة، لدرجة أن الأستاذ المحاضر سألني في نهاية اليوم إن كنت راضياً عن دورة الاندماج أم لا. وكان مصدوماً عندما أخبرته بأن هذه الدورة عديمة الفائدة، وازدادت صدمته بالتفاصيل التي كانت تجري طوال الوقت بين الأشخاص الحاضرين، بداية من السخرية منه ومن حديثه، مروراً بالاستهزاء من قيم إنسانية مثل دعم حقوق المثليين أو المساواة بين الرجل والمرأة وفصل الدين عن الدولة، وصولاً إلى أن من يفترض أن يكونوا مندمجين في المجتمع الفرنسي هم من يحثون اللاجئين الجدد على عدم الاندماج، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالميول الدينية والقيم العائلية والخصائص الثقافية، التي يمكن الاحتفاظ بها وممارستها بشكل سري بعيداً من الأنظار في حال كانت تتعارض مع القوانين الفرنسية، حسب رأي المترجمة الفذ.
وبالطبع فإن تلك النصيحة التي قدّمتها امرأة مسلمة للاجئين تعتقد أنهم جميعاً مسلمون، تُعتبر كارثية، في دولة تعاني مؤخراً من أزمة عميقة بسبب النزعة الانفصالية التي تتهم بامتلاكها المجتمعات المسلمة في محاولة لإقامة دويلات ضمن الدولة الفرنسية نفسها، حسب الخطاب الرسمي الفرنسي. ويصبح الأمر أشد خطورة عند النظر إلى البعد العنيف الذي قد يصل إليه ذلك التفكير الانعزالي، كحالة العمليات الإرهابية الأخيرة في فرنسا، وتحديداً جريمة مقتل الأستاذ الفرنسي سامويل باتي في باريس في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
والحال أن سيستم اللجوء في الدولة الفرنسية يعتبر أن اللاجئين والمهاجرين يحترمون قيم الجمهورية والديموقراطية الموجودة في البلاد، بمجرد توقيعهم ورقة يصرحون فيها بذلك الشيء، وبمجرد حضورهم دورة مكثفة من أربعة أيام يتبادلون فيها أطراف الحديث لا أكثر. بعكس دورات الاندماج في ألمانيا مثلاً التي تطلب القيام بامتحانات جدية قبل إعطاء وثيقة الاندماج.
ويمكن المجادلة هنا بأن الطريقة الفرنسية في التعامل، إنسانية ولطيفة، وهي فعلاً كذلك، لكنها تبقى قاصرة إن لم تكن ساذجة، ليس لأنها لا تتعامل بطريقة أشد صرامة مع الأفراد القادمين من دول أخرى، بل لأنها لا تتحاور معهم بالشكل الكافي لسد الفجوة الكامنة بين الطرفين، والتي تعزز منها فترة الانتظار الطويلة لمعالجة طلبات اللجوء، ومراكز الإيواء التي تنتفي فيها كافة أشكال الخصوصية، والتي تحول الامتنان الذي قد يشعر به اللاجئون والهاربون من بلدانهم الأصلية، إلى نقمة لشعورهم بأنهم مجرد أرقام تتم معاملتهم بازدراء طوال الوقت.
يمكن تلمس ذلك بشكل جلي في مسألة اللغة الفرنسية، التي يطالب السيستم الفرنسي اللاجئين بتعلمها من تلقاء أنفسهم، من دون توفير بيئة حقيقية لتدريسها بشكل منهجي، فالدورات التي يجري المكتب الفرنسي للهجرة والاندماج "أوفي"، كشرط من شروط عقد الاندماج، عديمة النفع في أقل توصيف، حتى لو كان بعض الأساتذة فيها مخلصين وجادين لتقديم المساعدة، فإلى جانب أنها لا تغطي سوى المستوى الأول من اللغة الفرنسية "A1"، تفتقد الصفوف إلى هيكلية أو منهج موحد، ومع تغير المدرسين بشكل يومي، يتلقى الطلاب معلومات مكررة وعشوائية، تجعلهم يمضون ساعات وساعات من دون إضافة تذكر، سوى شعورهم بالذنب والبؤس وعدم الأمان.
في يومي الأول في مدرسة اللغة، طالبت ببعض الأوراق التي حصل عليها بقية الطلاب في وقت سابق، وسألت بعض الأسئلة عن تفاصيل أجهلها. بعد قليل أتت مديرة المدرسة لتقول لي أن علي الاسترخاء فقط، وألا آخذ الأمور بجدية مفرطة لأن "دروس الأوفي" ليست عميقة بما يكفي وليست كافية لتعلم الفرنسية، فالمهم هو أن نواظب على الحضور كي ننهي الساعات المقررة لنا فقط. طبعاً تجادلت معها مطولاً من دون الوصول إلى نتيجة. ما لا أفهمه هنا، هو كيف يمكن للاجئين أن يتعلموا اللغة الفرنسية أو أن يطوروا حياتهم تدريجياً، إن كان الأشخاص المسؤولون عن تلك الأمور غير مبالين وغير جادين عند القيام بعملهم، الذي يتبجحون به في كل لحظة: "لدينا عقد دائم في هذه المدرسة".
بعد نهاية اليوم الثالث من دورة الاندماج، رافقني في طريق العودة لاجئ سوري هارب من الحرب السورية وفقد أفراداً من عائلته في معتقلات نظام الأسد كما أخبرني. وطوال 34 دقيقة في السيارة معاً، كان يشتم الدولة الفرنسية بأقذع الأوصاف، ويتمنى العودة فقط إلى "الشام" لأننا لو كنا هناك لكان وضعنا "عال العال". لا أملك القدرة على استيعاب مثل تلك الأمنيات، أخبرته أنه لو كنا في سوريا لكنا قتلنا أو اعتقلنا أو كنا واقفين على طابور الخبز أو البنزين في أفضل الأحوال. لم يُجِبني لكنه استمر في شتائمه، وتذكرت كيف كان غاضباً عندما أتى اسم الرئيس إيمانويل ماكرون بسبب موقفه الداعم لحرية التعبير المطلقة، بعد تفجر قضية الرسوم الكاريكاتورية الخاصة بالنبي محمد، مجدداً.
ربما يكون ذلك هو السبب، وربما لا، لست متأكداً. لكن الفجوة تبقى موجودة بينه وبين المجتمع الجديد الذي يقيم فيه. بعض اللاجئين الذين التقيت بهم في دورة الاندماج مثلاً يعتقدون أن ماكرون يخالف قيم العلمانية لأن الرئيس الفرنسي يجب ألا يتحدث في مواضيع الدين إطلاقاً، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالإسلام. آخرون يعتقدون بأن الديموقراطية كذبة. وفي مواقع التواصل الاجتماعي، تنتشر صفحات ومجموعات خاصة باللاجئين في فرنسا، تكرر الخطاب نفسه القائم على مظلومية تاريخية، يكاد المتحدثون بها ينسون أن سبب معاناتهم هي الأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط التي تعتبر مسؤولة عن تهجيرهم من بيوتهم في المقام الأول، وليس الدول التي تستضيفهم. وبشكل آو بآخر، تنصهر تلك المظالم مع خطاب تجييش مواز، إعلامياً وسياسيأً، يصور المسألة ضمن نطاق أوسع استعماري وثقافي، تمتد جذوره إلى الحروب الصليبية، التي تصبح فرنسا مسؤولة عن إطلاقها أولاً، وعن تجديدها اليوم ثانياً.