توفيق عكاشة عائد.. في "مهمة وطنية"!
لم تعد هناك حاجة للمقدمات. ثمة توجه عام في الدولة هو المهيمن على مجريات الأمور: نحن نفعل ما نريد، من دون الحاجة إلى منطق أو سبب أو تبرير أو ذريعة. حتى عمليات "جس النبض" الركيكة، التي كانت تهيّء المجال العام لقرارات كبرى أو تغييرات عنيفة، لم تعد في الحسبان. كل شيء ينتهي فجأة، كل شيء يبدأ فجأة. ولا تسأل عن السبب.
في بدايات الشهر الماضي، ظهر لاعبا جناح السيطرة على الإعلام المصري، تامر مرسي وياسر سليم، في صورة مع توفيق عكاشة، مرفقة بعبارات محددة للغاية: "الدكتور توفيق عكاشة يتعاقد مع قناة الحياة لمدة ثلاث سنوات". هكذا ببساطة، قرر المتحكمون في الإعلام عودة عكاشة إلى المجال العام، كما قرروا إخفاءه من قبل. ماهي الأسباب؟ ما هي الدوافع؟ ما هي الضرورة؟
نحاول فهم السياق الذي يظهر فيه توفيق عكاشة اليوم، إعلامياً.
الثابت أن عكاشة، مهووس المؤامرات، كان في عِداد الأكثر مُشاهَدة في مصر قبل انقطاعه، وهو يقدم للجماهير "ترفيهاً" من نوع خاص، معتمداً على أصوله الريفية ولهجته المختلفة تماماً عن اللهجة الرسمية للتلفزيون المصري.
قدَّم، إذن، على المستوى اللغوي، معطىً إكزوتيكياً، استطاع جذب الناس، حتى بدا بالنسبة إلى المدينيين والطبقة المتوسطة "فقرة كوميدية" تُمنتَج له الفيديوهات كأنه منزوع من مسلسل عن الفلاحين في التسعينيات المصرية. لكنه في بث مباشر ويومي.
قدَّم، إذن، على المستوى اللغوي، معطىً إكزوتيكياً، استطاع جذب الناس، حتى بدا بالنسبة إلى المدينيين والطبقة المتوسطة "فقرة كوميدية" تُمنتَج له الفيديوهات كأنه منزوع من مسلسل عن الفلاحين في التسعينيات المصرية. لكنه في بث مباشر ويومي.
وحتى تتثبت صورة الفلاح في الذهنية المدينية، فإن عكاشة يستشهد بالتفاصيل الريفية دائماً، البط والبرسيم وكل هذه العناصر اللطيفة، ولا مانع أيضاً من الظهور بـ"الجلابية" من حين إلى آخر، أو أن يقدم برنامجه من قريته "ميت الكرماء" من حين إلى آخر أيضاً.
هذه الخلطة مزج بها عكاشة هوسه بالمؤامرات، وحروب الجيل الرابع (صار الخامس في الوقت الحالي)، وحكايات عن أساطير الفراعنة، مع لمسة إسلامية تارة، وعروبية تارة أخرى، وقُطرية شوفينية مرات أخرى، وهو الخليط المأخوذ من كتاب "السر الأكبر" (إنجيل المهووسين بالمؤامرة) وتصوراته المتقادمة عن مركزية مصر وأهميتها. خليط يصلح تماماً لقعدات المصطبة ونميمة المقاهي الريفية.
لكن هذه الصورة الشعبوية الريفية، إن جاز التعبير، مع حرف "الدال" يسبق اسمه ككنية الدكتور، والعداء للثورة منذ لحظاتها الأولى، جعل الدولة تلتفت إليه مجدداً، وتتعامل معه بشكل جدِّي باعتباره صوتاً مزعجاً في وجه الثورة ولم تكن قد ألقت له بالاً في السابق. لكن الدولة، ولأنها رأت الصورة الكاملة، قررت تسييده في المشهد الإعلامي، ذلك أن نسب مشاهداته في المحافظات خارج القاهرة هائل، بل إنه يتجاوز برامج تتقدمه في الترتيب الجماهيري أحياناً في بعض المناطق الريفية.
هذه ليست ثنائية الريف والمدينة مرة ثانية. لكن، ما كان مثار سخرية الطبقة المتوسطة من المدينيين، كان سبب قبوله عند الطبقات الدنيا في المدن والريف على حد سواء.
هذه ليست ثنائية الريف والمدينة مرة ثانية. لكن، ما كان مثار سخرية الطبقة المتوسطة من المدينيين، كان سبب قبوله عند الطبقات الدنيا في المدن والريف على حد سواء.
بدأ عكاشة، مع قربه من الدولة، يكبر وينتفش ويشعر بأهميته إلى الدرجة التي جعلته يضع نفسه مع السيسي في عبارة واحدة على إنهما "رجلان أنقذا مصر من ثورة يناير".
حتى كانت القاصمة قبل عامين، عندما قررت الدولة أن انفلات عكاشة وانتفاشه يجب أن ينتهي تماماً وإلى الأبد. وربما يكون ما قيل وقتها أنه "صراع أجهزة أمنية".
وها هو عكاشة يعود فجأة، كما اختفى فجأة، بصورته القديمة نفسها مع لمسة التقدم في السن، وشكاوى الفلاح المتأزم مادياً.
هل تريد الدولة استعادة الجماهير التي انصرفت عن شاشاتها؟ هل وجدت أنها يمكنها التحكم في كل شيء، باستثناء المُشاهدات، وتريد استعادتها؟ اللطيف أن عكاشة نفسه، أكّد فكرة أنه يعود في مهمة وطنية، وربما يرمي إلى ربط الاستعراض الذي يقدمه، بهوس المؤامرة.
ما لا يعرفه القائمون على الإعلام أن الخلطة أصبحت منتهية الصلاحية. عكاشة اليوم لم يعد الفقرة الجاذبة للمشاهدات. وعلى صعيد آخر، فإن استعادته بعد "حرقه" إعلامياً، دليل على قلة الخيارات والإفلاس التام الذي يواجه القائمين على الإعلام. وهو ما نبّه كاتباً مخضرماً، مثل وحيد حامد، القريب من دوائر الدولة منذ سنوات، ليكتب مقالاً في "المصري اليوم" قبل أيام بعنوان "من أسباب الحزن"، قال فيه: "ولأن الإعلام المصري الآن في قبضة غير المتخصصين في الإعلام، فقد سقط في حفرة عميقة، الخروج منها ليس بالأمر الهين... وإذا كانت وظيفة الإعلام أن يؤثر في الداخل والخارج، فإعلامنا أيها السادة فقد القدرة تماماً على التأثير.. وإذا كان الإعلام هو سلاح الحرب في العالم الحديث، فإن قادته ليسوا من العسكريين، وإنما من المثقفين وأساتذة الإعلام.. الإعلام له رجاله ونساؤه فابحثوا عنهم.. لأننا فقدنا التنوع والإبداع والمنافسة، وأصبحت الصحف متشابهة تماماً، وإن تغيرت عناوينها، والقنوات الفضائية صورة طبق الأصل من زميلاتها، ولا جديد هنا أو هناك".