الوجه الذي لا تحتمل أُلفته
وأنا أتابع حفلة "التطبيل" (أي التهليل بالعامية اللبنانية) الفايسبوكية للإنتصارات "الحزب-إلهية" في سوريا، أتذكر بسخرية مُرّة طفولتي حين كنت أعتقد الإسرائيليين بلا وجه، أو كنت في أحسن الأحوال أتمثلهم بسحنات مسوخ "فيغا"، مغتصبي الأرض وأعداء "غرندايزر". لم أكن أفهم كيف يسع الإسرائيلي أن يملك وجهاً، أن يتحمل النظر إلى نفسه في المرآة ويرى نفسه كما أراه.
حين أنظر الآن إلى وجوه المطبِّلين الأليفة، لا أستطيع أن أغضّ النظر عن وقائع ومقارنات بسيطة: الانتصارات الإلهية التي يطبلون لها هي تطهير طائفي يفوق بعدد ضحاياه ورقعته الجغرافية ما فعله الصهاينة في فلسطين، وهذه واقعة لن تعدم الدبلوماسية الإسرائيلية فرصةً من الآن فصاعداً للتذكير بها في المحافل الدولية، خصوصاً أن الجريمة جرت تحت أنظار وبتواطؤ العالم كله، ووثقتها المنظمات الإنسانية والدولية المحايدة نفسها التي وثقت ودانت، في كل مرة، الجرائم الإسرائيلية في فلسطين ولبنان (طبعاً بلا حول ولا قوة في الحالتين)، والتي يتهمها المسؤولون الإسرائيليون بمعاداة السامية ولا يوفرون فرصة للضغط عليها وابتزازها.
الحزب الأصولي الذي يطبّلون له، هو نفسه من قام، قبل مآثره السورية، بسلسلة اغتيالات أودت بعشرات السياسيين والصحافيين والمدنيين اللبنانيين، والعدالة الدولية التي وجهت له الاتهام هي نفسها التي لطالما أحرجت وما زالت تحرج الحكومات الغربية في علاقتها بإسرائيل.
وجوه المطبِّلين أليفة كما قلت، ليست ملتحية ولا محجبة. العديد منهم نشأتُ بينهم، أو عرفتهم وجالستهم في المقهى والحانة قبل الدعوة الفايسبوكية. هم في غالبيتهم العظمى غير مؤمنين، يشجبون الظلامية الدينية ويلهجون بالشعارات التقدمية. الحزب الأصولي نفسه الذي يطبِّلون له يمنعهم من عيش تقدميتهم الإجتماعية واختيار نمط حياتهم في مساقط رؤوسهم أو رؤوس أهلهم، وحتى من يقيم بينهم في ضاحية بيروت الجنوبية لا يجرؤ على شرب "كاس السيد" إلا في حانات المقاومة في شارع الحمراء.
في ما عدا إعلاميي الممانعة بينهم، ليست لهم غالباً أي مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في التطبيل للجريمة. ليسوا هم من سيستوطن القرى والبلدات "المحررة" من أهلها في سوريا. الجريمة تمت لصالح وبأمر نظام أصولي إيراني يحتقرهم أركانه ومعارضوه إسوة ببقية العرب، وأكثر من يعرف هذه الحقيقة هم أبناء البيئة "المقاوِمة" ممن اختبروا الاحتكاك المباشر بالإيرانيين.
الضحايا السوريون من أبناء جلدتهم ولغتهم وثقافتهم، وهم أنفسهم من استقبلهم بالأحضان وقت محنتهم في 2006، حين ارتأى النظام المذكور تقديمهم أضحية على مذبح مشروعه النووي.
التطبيل للجريمة لا يأتي من مصلحة أو من قرابة إيديولوجية أو ثقافية مع القاتل ومشروعه، بل من افتتان غريزي بالقوة المتفلِّتة، وإحساس بدائي بالإنتماء القَبَلي إلى عصبية مذهبية تجسّد هذه القوة وتتعالى على الإعتبارات الثقافية والمصلحية.
في وجوه المطبّلين، تبدو الوحشية الإسرائيلية أليفة وحميمة إلى حدٍ مربك. لكن يبقى أنهم نسخة كاريكاتورية عن هذه الوحشية، مع غياب شبه كامل للحسابات العقلانية وفائض في الخساسة يصبان في صالح الإسرائيليين.