سراقب تكسر حاجز الخوف مرتين
"عسكر على مين؟". لو تم البحث عن تطبيق هذا الشعار بعد سنوات من اندلاع ثورات الربيع العربي، فلن يجد الباحث، الكثير ليتحدث عنه في رؤى وطموحات الجماهير أو حتى في ممارساتها. لكن مدينة سوريّة صغيرة كان لها رأي آخر رغم مرور الزمن، وهي التي يقال عنها بأنها لا تتعب ولا تملّ، ويبقى لدى أهلها نظرتهم وأسلوبهم المختلف حيال أي قضية سواء غرّدوا ضمن السرب أم خارجه، فالمهم ألا يفقدوا لونهم الخاص.
مدينة سراقب، ورغم التواجد الفصائلي فيها عبر سنوات، بقيت وفيةً لخيار المدنيّة على المستوى الشعبي، وهو ما أثبتته الأسبوع الماضي حين تعرضت لاختبار جدّي، حين شنت "هيئة تحرير الشام" هجوماً على المدينة بهدف إخراج عناصر "حركة أحرار الشام" منها، تخلله عمليات تفتيش ترافقت مع قيام مقاتلي "الهيئة" بتمزيق أعلام الثورة وتنكيسها والدعس عليها.
"سقط القناع أم تمّ إسقاطه"، هو ما بات تفصيلاً ضمن تعليقات وردود أفعال نشطاء المدينة بعد ما شهدته خلال الأيام الماضية التي ميّزتها نبرة جديدة من التعاطي مع المستجدات اتسمت بالجرأة وتسمية الأمور بمسمياتها.
ومع أن سراقب ليست الأولى التي يُطلق متظاهروها لقب "شبيحة" على مقاتلي "هيئة تحرير الشام" في سياق هتاف أو تعليق، إلا أن المدينة تميزت بكونها أعلنت رفضها لكل من يستقوي بسلاحه على المدنيين، حتى وإن كان من أبناء المدينة المغرقة في محليّتها وخصوصيتها، ليكون الثائر المسلح أمام خيارين؛ الانتماء لفصيل عسكري أوالانتماء للناس وتطلعاتهم.
ووفقاً لذلك، يمكن أن نفهم خيار الأهالي بالتمسك بوجود لواء "جبهة ثوار سراقب" مع أنه ليس الفصيل الأقوى والأكثر تسليحاً بين الفصائل الاكثر شهرة في الشمال السوري، لكنه الأنسب كونه يلبي ما يصبو إليه الناس في بقاء المجلس المحلي المنتخب صاحب اليد العليا بالمدينة في ظل حضور متوازن لأكثر من فصيل معارض.
هذا التصور راح يتبلور مؤخراً مع دعوة بعض النشطاء لأن يكون المجلس المحلي هو "السلطة" الأعلى ثورياً بحيث يحق له دعوة كل المسلحين وضع أنفسهم تحت تصرفه. ولا بد هنا من القول أن ذلك لم يكن ليخرج سابقاً كطرح حقيقي، مع أن للمدينة تجربتها الطويلة في احتضان مؤسسات مدنيّة، وبالتالي فقد ظهر التغيير في وعي الناس ومطالبها وصولاً إلى عدم التفريق بين المسلّح والمسؤول المدني الفاسد، والتهديد ولو عبر وسائل التواصل الاجتماعي بفضح "الجميع" بعد أن جرّب الشعب كل صنوف القتل والقهر والابتزاز ولم يعد يهاب شيئاً.
وعلى هذا الأساس اتخذ الأهالي من كلام الناشط الإعلامي مصعب العزو، بوصلة لهم حين أكد قبيل موته أن من لم يقف في وجهه حكم أكبر طاغية في العالم، لن يعجز عن إسقاط غيره، وهو ما يشكل تطوراً لدور الحراك المدني من وقف الاقتتال الفصائلي إلى فرض إرادة الشعب ولو بالتدريج.
في الوقائع، وبعد هجوم "هيئة تحرير الشام"، خرجت مظاهرات مناهضة للهيئة (لم تستثنِ "أحرار الشام" أيضاً) اكتسبت حراراتها من عوامل عدة. فمع أن الاقتتال بين الفصيلين جاء في سياق صراع شامل تشهده مناطق إدلب مؤخراً، إلا أن الأمر تحوّل في نظر أهالي سراقب إلى استهداف لمشروعها المدني الديمقراطي، فقد جاء الهجوم مباشرةً عقب انتخابات المجلس المحلي في المدينة والتي حظيت باهتمام غير مسبوق، لتتعرض هذه الخطوة إلى ما يشبه الصفعة بفعل الاشتباكات التي دارت.
لكن ما ألهب الاحتجاجات فعلياً كان مقتل الناشط الإعلامي مصعب العزو على يد مقاتلي "هيئة تحرير الشام" أثناء مظاهرة حاولت منع اقتحام مقر "جبهة ثوار سراقب" من قبل "الهيئة". وفي اليوم التالي خرجت مظاهرة أخرى اتجهت إلى المحكمة الشرعية التي كانت تتخذها الهيئة مقراً لها، ورغم إطلاق الرصاص لتفريق المتظاهرين إلا أنهم لم يتراجعوا إلى أن خرج عناصر "الهيئة" من سراقب.
وبمقتل "العزو" أصبح لدى المدينة شهيد جديد له حيثية اجتماعية ربما لا يشابهه فيها سوى محمد مصطفى باريش، الشهير بـ "محمد حاف" والذي كان نجم الاحتجاجات ضد نظام الأسد في عام 2011.
ولعل المفارقة أن موت "حاف" في ذلك الوقت جاء نتيجة اشتباك مع دورية أمنية للنظام حين تصدى لها منفرداً ببندقية وأجبرَ عناصرها على التراجع، بينما سقط "العزو" بعد ستّ سنوات قتيلاً أعزلاً عندما جابه مقاتلي "الهيئة" بصدرٍ عارٍ. وعليه فقد كانت تضحية الأول نقطة تحول على طريق الثورة المسلحة، فيما بدا مقتل الآخر ميلاداً جديداً للإصرار على السِّلمية والإيمان بجدواها أمام مشاريع الآخرين.
خرجَ عناصر "الهيئة" وتحررت سراقب كما أعلن الأهالي هذه المرة، لكنهم عزموا على مواصلة التظاهر بعد ذلك لأنهم يستشعرون خطراً لا يزال موجوداً، وأن معركتهم من يريد أن يحكمهم ببندقية لم تنتهِ.