اليمن: مُوثِّق الفساد يموت مسموماً
يوصف الصحافي اليمني الذي رحل في ظروف غامضة محمد عبده العبسي، بأنه "فارس الصحافة الاستقصائية في اليمن"، وذلك جراء تفوقه في مجال الصحافة الاستقصائية التي تفتقدها اليمن كثيراً، وتصميمه على خوض مجال نادر وشاق، بجهود فردية، وليس ضمن إطار مؤسسيّ.
ويمثل العبسي، عملة نادرة في هذا المجال شبه المفقود في البلاد، وذلك كون عدم إزدهار هذا النوع الهام من الصحافة اليمنية، يعود أساساً إلى تقاعس الصحافيين من ناحية، وعدم الجهد في التقصّي، من أجل الوصول للمعلومة والوثيقة، فضلاً عن مشكلة التمويل التي يفتقر إليها صحافيين كثيرين بنسب متفاوتة، وكذا عدم التوجه المؤسسي، مما قاد إلى تواطئ غالبية الصحافيين مع حالة الاستقطاب السياسي والتحشيد الإيديولوجي، التي تمارسها وسائط إعلام، بعيداً عن دورها الانتقادي الكاشف للحقائق، وفي مقدمها حقائق قضايا الفساد.
في وقت متأخر من مساء 21 ديسمبر (كانون الاول) الفائت، توفي العبسي عن عمر 35 عاماً. صدم جمهور قراء الصحافة في اليمن بوفاته المبكرة، إذ تميز بشعبيته الجارفة، كما بمحاربته الشجاعة والدؤوبة للفساد منذ ما قبل قيام ثورة 2011 الشعبية. وجراء تفوقه في مجال الصحافة الاستقصائية، ورأيه الحر في مختلف القضايا، صار رمزاً شعبياً حقيقياً، وصاحب صوت ينال الإجماع.
العبسي، "خط لنفسه طريقاً شاقاً للدفاع عن مصالح الوطن، وخاض بمهنية عالية ملاحم كبيرة في مواجهة الفساد"، بحسب ما جاء في بيان تعزية نقابة الصحافيين لأسرة الزميل الراحل والوسط الصحافي اليمني .
الأحد الماضي، كشف فريق متابعة قضية وفاة الصحافي العبسي رسمياً، بأن وفاته "كانت بسبب التسمم والاختناق بغاز أول اكسيد الكربون، حيث وجدت مادة (الكاربوكسي هيموغلوبين) في الدم بنسبة تشبع 65 % ، والتي تعتبر قاتلة".
وفي اليمن، تمثل قضية وفاة الصحافي الاستقصائي العبسي "أهمية بالغة كقضية رأي عام تستمد أهميتها من الدور الشجاع والاستثنائي الذي لعبه الراحل في مقارعة الفساد ونضاله من أجل العدالة والحقيقة".
غير أن غصة غائرة، يكابدها زملاء وأصدقاء ومحبي الصحافي اليمني، والمدون البارز، الذي وضع بصمة إستثنائية في الصحافة اليمنية خلال زمن قياسي، وذلك جراء رحيله في ظروف غامضة.
كان الإعتقاد في اللحظات الأولى بعد وفاته، بأنه مات بالسكتة القلبية، وكانت أسرة العبسي قد قامت بغسله وتكفينه استعدادا لدفنه، قبل أن يعرفوا ان إبن عمه الذي تناول وجبة العشاء معه أيضا، تم إسعافه إلى مستشفى آخر، وإدخاله غرفة الإنعاش بالعناية المركزة.
بحسب مصادر مقربة، وعائلية متطابقة، فقد مات العبسي بعد وقت قصير من عودته إلى البيت، حيث كان قد بدأ يشعر بآلام وتقلصات فجائية رهيبة في المعدة، قبل أن يصل الى المستشفى ميتاً.
والحال أن ثمة من أعتقد بأن وفاة العبسي، فيها شبهه جنائية، وهناك من رجح انها لأسباب سياسية أيضاً. لكن جسده ذهب إلى ثلاجة المستشفى، وظلت حادثة وفاته، أداة تستخدمها أدوات الأطراف المتصارعة، لتصفية حسابات وتوزيع اتهامات في ما بينها.
فبعد موت العبسي بساعات قليلة، كان لافتاً قيام نشطاء يتوزعون بين كل الأطراف المتصارعة في اليمن، بتسريب رسائل بينهم وبينه-في صفحاتهم بمواقع التواصل الاجتماعي -عن قضايا فساد، يعمل عليها في قطاع النفط والسوق السوداء، ويتورط فيها نافذون وقيادات في الميليشيا من الصف الأول.
وبينما دان صحافيون ونشطاء، إستغلال إسم الفقيد في تصفية حسابات، اعتبر آخرون الأمر دليلا على موته غير الطبيعي. ومنذ رحيله، عبر آلاف من اليمنيين على منصات التواصل الإجتماعي، عن حزنهم الشديد، وخسارتهم الكبيرة أيضا برحيله الصادم.
فالعبسي اشتهر بتناوله لقضايا فساد حساسة جدا، وبالوثائق والأرقام، كما كشف الكثير من الحقائق للرأي العام اليمني. وللتذكير فقد بلغ عدد زوار المدونة الإلكترونية للعبسي، أكثر من مليون شخص، وهي تتضمن كتاباته في الرأي، وما يعيد نشره لزملائه، فضلا عن تحقيقاته الاستقصائية الجريئة والمدوية السمعة.
كان العبسي قد بدأ حياته الصحافية، في صحيفة "الثورة" الرسمية، وتحديداً في الإدارة الثقافية، قبل قرابة 15 عاما، وهو شاعر وله ديوان منشور، ويعد من أهم الأسماء الناشطة في مختلف فعاليات المجتمع المدني. لكنه تحول مبكرا إلى مجال التحقيقات الاستقصائية، التي أبدع فيها، ونالت اهتماما شعبياً واسعاً.