حوار البرادعي وتسريباته: التاريخ في مواجهة التاريخ؟
القصة التي تشغل مصر الآن حول حوار محمد البرادعي في "تلفزيون العربي"، ومن ثم مع حلقتي التسريبات المذاعة على برنامج "على مسؤوليتي" لأحمد موسى عبر شاشة "صدى البلد"، تضعنا أمام دهشة من ردود الأفعال المذهولة والمصدومة من جراء هذا الضجيج العالي.
فكل عناصر الضوضاء ليست جديدة ولا غريبة على المجال العام المصري. فالدكتور محمد البرادعي، الرئيس الأسبق لهيئة الطاقة الذرية، هو رجل التوقيت الخاطئ، والصمت الطويل، ومن ثم الحديث غير المجدي، وهو ما أثبتته تصريحاته وتحركاته خلال السنوات الثلاث الماضية.
أما التسريبات فهي من طبائع الدولة المصرية في صيغتها الأمنية منذ عهد جمال عبد الناصر، وليس على الباحث إلا أن يغوص قليلاً في ما عرف بـ"فضيحة المخابرات" وبطلها واحد من "الضباط الأحرار" وهو صلاح نصر. حتى صفاقة الدولة في إذاعة ما بين يديها من تسجيلات مراقبة مستمرة على الشخصيات العامة، ليست بجديدة، خصوصاً بعد ما أذاعه عبد الرحيم علي من تسجيلات لرموز من شباب الثورة حصلوا إثرها على أحكام قضائية بالحبس..
باختصار كل ما في المشهد على الصعيدين السياسي والإعلامي، أمرٌ للأسف صار مألوفاً في الساحة المصرية. فما هو الجديد المفزع إلى هذه الدرجة؟
بداية، طغت التسجيلات في ذيوعها على الحوار، لأسباب عديدة، أهمها انتشار برنامج أحمد موسى وقاعدته الجماهيرية الكبيرة، ما يفوق انتشار تلفزيون "العربي" وقدرته على الوصول إلى المشاهد المصري. وثانياً، لأن التلصص يثير الشهية للفرجة أكثر من الكلام المنمق المعد سلفاً، والمفلتر بحسابات الواجب والعيب. وثالثاً الفضول تجاه ما كان يثار في الغرف المغلقة، وكيف أديرت هذه الثورة في الخفاء وعلى أي شيء انتهت.
فالبرادعي –شئنا أم أبينا- هو الوجه الأكثر تعبيراً عن الحراك الثوري، وأصبح في بعض مراحله الرمز المعبر عنه، وهو ما لم يتم له كما أراد، فانتهى نهايته الميلودرامية التي يعلمها الجميع.
بين الشريطين، نحن أمام نسختين من البرادعي، واحدة –في التسريبات- منطلقة متكلمة تقول رأيها صراحة في كل شيء وفي كثير ممن عطلوا الثورة أو كانوا سبباً في دخولها مسارات ومتاهات أدت بها إلى مصيرها المؤسف، كما أنها أوضحت صورة جلية للغاية عن فلسفة البرادعي ومنطقه في إدارة الأزمات، وكيف يرى موقعه من الثورة والحراك السياسي المصري بشكل عام.
النسخة الثانية –في الحوار- متحفظة ودبلوماسية، تتحدث بحساب واضعة كل جملة في ميزانها، مثلها مثل "برادعي تويتر"، صاحب التغريدات المائعة العامة، متقمصة الحكمة بذهنية قديمة لا تناسب التغيرات السياسية الحادة في الظرف الآني، ما استدعى الكثير من السخرية من متابعيها على الشاشة مثلما هي في "تويتر" في الآونة الأخيرة.
لكن التسريبات والمقابلة المتلفزة، أعادت إحياء "دراويش البرادعي" مرة أخرى، وأعادتهم إلى الخريطة الكلامية بعدما كانوا قد خفتوا تماماً خلال السنوات الماضية، ليحاولوا الإفراط في تأويل ما يقوله الدبلوماسي العجوز، بالنغمة القديمة نفسها: "البرادعي لا يصلح لمصر لأنه متقدم عنها بسنين ضوئية". الشعارات نفسها والمنطق المتعالي الهش الذي تعالت نبرته، عامي 2010 و2011. غير أنه هذه المرة يبدو خارج التاريخ، خارج حتى منطقه المتهالك، ينتمي إلى عالم انتهت كل عناصره إلى غير رجعة.
أنكر البرادعي التسريبات، وأنكرتها كل الأطراف المتورطة فيها، بل إنه خرج بتغريدات هزيلة قائلاً: "أشفق عليك يا وطني، شرعية النظام في أي دولة مستمدة من حماية الحقوق والحريات، عندما يجرم نظام في حق مواطنيه، فهو بذلك يفقد مبرر وجوده. ليتنا نتعلم من التاريخ".. في وقت أعلن عن رغبته في العودة إلى العمل العام، ليبدو أنه هو شخصياً لم يقرأ تاريخه القريب جيداً، ليعلم أن التحرك الذي يبدو متعقلاً لا يفيده بل يجلب له سخرية ولامبالاة عنيفين من المعارضة المكبوتة الصامتة في مصر.
أي حديث عن تردٍّ أخلاقي في ما يقدمه أحمد موسى، هو من قبيل العبث غير المفهوم الآن! فعلاقة موسى بأجهزة الأمن المصرية غير خافية على أحد، حتى على أبعد مشاهديه عن الساحة السياسية وحساباتها، بل إنه يعلنها صراحة وبوجه مكشوف. ولا غرابة أيضا في استخدام الدولة وبوقاحة لما لديها من تسجيلات.
كل ما تغير أنها لم تعد تهتم بمظهرها الديموقراطي، كما كانت الدولة قبيل الثورة، بل تحركاتها كلها مشكوفة من دون مواربة، وهذا ليس جديداً.
لعل الاندهاش والفزع، مرده بالأساس الى سؤال: كيف تسجل الأجهزة الأمنية لرئيس الأركان المصري –وقتها- سامي عنان؟ ألا يذكرنا بما سرده محمد حسنين هيكل –من قبل- عن تسجيل مراكز القوى للرئيس جمال عبد الناصر ومن بعده للرئيس محمد أنور السادات؟
الدولة المصرية، في التحليل الأخير، تتحرك بخطوات مكشوفة، غير مكترثة لصورتها، ولا مهنية إعلامييها الذين صاروا يتباهون بعلاقتهم برجال الأمن، وقربهم منهم. كل ما يحدث بعد ذلك لا يدعو للدهشة.