"بابل" يبيع كراسينا
مات "بابل". المسرح الذي كان قلب شارع الحمرا، توقف نبضه بعد شهقات عديدة. لكن المرة الأخيرة كانت الحاسمة، فلم يطلب المساعدة ولم يصرخ. مات بصمت كمن اعترف بالهزيمة.
مات "بابل" مرتين. المرة الأولى عندما أقفل أبوابه لأسباب مادية لم تشفع بها نجاحات وانتصارات مسرحية وثقافية، وإن اختلف عليها النقاد. والمرة الثانية كانت الأقسى والأبشع عندما عرض كراسيه للبيع على صفحة للأدوات المستعملة في "فايسبوك".
المسرح يعرض كراسيه الحمراء للبيع. الكراسي التي جلس عليها نقاد وصحافيون، زملاء الكار والأصدقاء. الكراسي التي كانت الموعد الأول لعاشقين والهروب المتكرر لفارين من عالم الواقع إلى خشبة المسرح وشخصياته.
كراسينا الحمراء المعروضة للبيع كالصفعة نحتار من توجع أكثر، نحن أم "بابل"؟ ذاكرة المكان تخبو شيئاً فشيئاً. ونقف عاجزين تماماً كالمتفرج على احتضار البطل على خشبة. النسيان يبتلع كل ما بنيناه من صور ولحظات وعناوين.
عندما عصفت الأزمة المالية بستار "بابل"، الذي يديره المسرحي العراقي جواد الأسدي في بيروت، اعتقدنا أنها صرخة ما قبل الوصول الى الهاوية. بعدها اعتقدنا أن الإقفال سيتأجل كما حدث في المرة الماضية. لكن السيناريوهات ذات النهاية السعيدة لم تكن من نصيبه هذه المرة.
الخشبة تبيع أبناءها، كرسياً تلو الآخر. والمهتمون بشراء كراسينا إما يريدون أن يزينوا بها حدائقهم أو إضافتها إلى ديكورات منازلهم، وكأنهم لا يعرفون أن لنا في ملكيتها تماماً كأصحابها. هذه الكراسي وجدت لتكون مقابل ستار وليس لأي شيء آخر.
بعض المتابعين لصفحة الأدوات المستخدمة في "فايسبوك"، يسألون عن السعر والطول والعرض، ولا يعلمون أن هذه الكراسي شاهدت صعود وأفول نجوم وشخصيات رسمت صورة المسرح اللبناني والعربي.
قلة قليلة انتبهت إلى أن هذه الكراسي تعود إلى "بابل"، وسألوا عن سبب بيعها، لتصلهم إجابة مقتضبة تخفي الكثير من اليأس والحزن: "أسباب مالية". ما هذه العبارة القصيرة التي تختصر بكلمتين موت معلَم ثقافي لم يستحق هذا المصير المؤسف؟
بماذا سيُستبدل "بابل"؟ بملهى ليلي تغني فيه سيليكونات الفن الحديث؟ بمطعم يقدم الأكل السريع في زمن الاستهلاك؟ ماذا سيحل بالخشبة؟ بالستار؟ بالأضواء والمعدات؟ ستباع مع كراسينا المستعملة؟
تشعر بالنقمة على من يعرضها للبيع، وأيضاً على من يعرض شراءها. لكن تجد نفسك تفكر في اقتناء كرسي أو اثنين كمن يسرق من النسيان ذكرى لمكان وزمان لن يعودا.
كيف لمسرح أن يشهر استسلامه بهذه العلنية كمن يرقص فوق حطامه؟ أنحزن على المسرح الذي انتهت مسيرته؟ أو على الملاحق الثقافية التي أقفلت والمؤسسات الاعلامية التي تهتز قبل السقوط الأخير؟ ماذا بقي في هذه المدينة؟
إعلان فجّ يحمل عنوان "كراسي مسرح للبيع" أشبه بإشهار موت، وحتى تأنيب علني لكل من ترك بابل يصارع وحيداً حتى النهاية. بارقة أمل وحيدة كانت لشخص عرض شراء الكراسي لتجهيز مسرح للاجئين في أحد المخيمات. هكذا هي الحياة. أمٌّ تموت وهي تعطي الحياة لطفل يكمل بما تبقى في روحها من أنفاس.
نودع "بابل"، ونتمسك كالأطفال بالمسارح القليلة الباقية. لا تتركونا وحيدين... لا تبيعوا كراسينا!