ظلم الآلهة
الشارع يغص بالمارة. الكل ذاهب في اتجاه ما على عجل، كأن أحداً لم يعد يتجول في هذه المدينة التي توقفت في الزمن واستغنت حتى عن الوقت الضائع. منهم من يحمل أكياس التسوق أو الخضار، منهم من يناظر ساعته محاولاً الوصول إلى موعد ما أو مكان ينتظره فيه أحد، إلا هذا الصبي، لا ينتظر شيئاً ولا شيئاً ينتظره.
يحدق في العدم، كأن زمانه توقف. ينظر باتجاهك لكنه لا يراك، بل يخترقك ويحيلك مادة شفافة يستطيع رؤية ما ورائها...
تظنه متسولاً، لكنه لم يتعلق يوماً بشباك سيارة، ولم يلاحق المارة بالعبارات "الكليشيه" التي يستخدمها المتسولون. يقف فقط محدقاً في العدم بكبرياء غريب.
يضع يديه في جيوب سرواله القماشي المغبر بظلم الشارع. شعره أشعث مليء بالغبار يترك وراءه غيمة بنية إذا لمسه أو نفضه، تماماً كصورة الرجل الكئيب الذي تلاحقه غيمة سوداء. الاعتقاد البديهي بأن هذا الصبي الرث المظهر متسولاً يتلاشى عند سؤال واحد تسقط أمامه كل الأشياء: "هل لديك بطاقة كالتي أرى الناس يفتحون فيها باب هذا المصرف"؟ الصبي يظن أنه باب سحري، وأن سنه الصغير لا يسمح له بالحصول على سر الدخول كبقية الكبار. يريد من يعينه على فتح هذا الباب.
براءة الأطفال كانت تدفع بنا إلى الغيرة من صاحب البقالة لأننا اعتقدنا بسذاجة أنه يستطيع أن يأكل كل ما فيها من حلويات.
هذا المثال ينطبق على باب المصرف الذي قد يعتقد بعض الأطفال أنه "من حيث يأتي المال"، لذلك من البديهي أن تعتقد أنه أراد البطاقة السحرية ليأخذ المال.
هذا الصبي ما زال طفلاً، لكن حلمه ليس الشوكولا أو قطعة غبية من الحلوى ولا مال المصرف. "بس بدي تفتحيلي الباب لنام جوا. خايف".
عند هذه اللحظة يدوي سقوط لانهيار سحيق، ليس سوى سقوط كل ما جُمع من ايمان بالمبادئ والعناوين العريضة والقليل من الأمل والإنكار في الوقت ذاته. فجأة تسقط الألوهة عن كل الآلهة، والإنسانية عن كل البشر، وتبقى عينا هذا الصبي تخترقك وتحدق في العدم.
بعض الأطفال يريد لعبة، أو ربما حذاءً جديداً. بعضهم يريد التنزه واللعب أو شراء البوظة غير آبهين بكل ما في هذا الكون من بشاعة. لعقة صغيرة من بوظة الثلج السخيفة كافية لرسم ابتسامة تملأ الحياة وتتسع الدنيا.
لكن لا... هذا الصبي يريد بعض الأمان داخل مصرف غير آبه بكل أمواله. يرغب بالنوم وراء حاجز – ولو زجاجي – يفصل بينه وبين الحياة بكل بشاعتها. ماذا تعطي صبياً يريد الأمان؟ قد يأكل بما يتحنن عليه الناس به ويرتدي الملابس المستعملة، لكن لا شيء قادر على أن يمحو من داخله – وداخلك – كلمة "خايف".
أما أنت... فتقف منكسراً على حطام ذاتك، خجلاً من نفسك. ستنام الليلة في منزلك داخل غرفتك، بعد ان تتناول طعامك.
كم مرة أكلت اليوم؟ مرتين، ثلاثة؟ كيف تجرؤ؟ ما هذه الوقاحة؟ تحاول أن تتخلص من هذا الشعور المقيت في داخلك...هذا القرف. العجز يحيلك صغيراً، لا تدري ما تفعل فتلملم بقاياك وتمشي مذهولاً. في المرة المقبلة تصادفه، تسأله اين نمت. يبتسم ويخترقك بعينيه... نام هناك.. في العدم.