أُمّ البنات
مكحلة نحاسية قديمة، فساتين مخملية مطرزة بالدانتيل وأحذية براقة لمّعتها وحافظت عليها طوال سنواتها الستين. أرادت بنتاً.
تنظر سمية إلى مرآتها التي أكل الزمن لمعانها وتعدّ أسماء أبنائها. "كلن صبيان... الله ما عطاني بنت". وتلمع في طرف عينها دمعة خجولة تسترق النظر إلى خزانة تصطف فيها الملابس. كل فستان تحته حذاء مع جوارب يزينها "كشكش"، وكأنه صف فتيات متخيلات توقف بهن الزمن وبقين صغيرات.
بعض الأحلام يموت، وبعضها يذوي أو يخجل البقاء فيرحل لتحل محله القناعة. لكن حلم البنت لم يغادرها، ويعود ليزهر مع كل فتاة تولد في الحي، فتحمل مكحلتها وهداياها لتستقبلها وكأنها تقضم فتات فرح لم تحظ به.
"يا كحيلة العينتين، والورد ع الخدين، أمك أميرة وبيك زين، ربي يحميكي من كل عين"، تصدح سمية بصوت يخلط الفرح بالبكاء ويشي بالكثير من الأمنيات.
وعلى الرغم من هداياها الكثيرة، والملبّس والنوغا الذي تحمله للتهنئة، تأبى سمية أن تتخلى حتى عن فستان واحد من الفساتين التي تحتفظ بها، وكأنها ترفض التخلي عن حلمها. ترفض التخلي عن بناتها المختبئات على شماعات خشبية أكل الصدأ مقابضها.
تعود من زيارتها حاملة مكحلتها النحاسية وتجلس أمام مرآتها. تنظر إلى صور صبيانها وتكحل عينيها الزرقاوين. تنزل دمعة على عجل، عجزت عن حبسها. تقول: "الكحل ما بساقبش عيوني بعد هالعمر" تبتسم بصعوبة وتبكي قليلاً...ثم تبكي كثيراً، ساكبة حرقتها في منديل أبيض طرزت زهرة وردية على طرفه عندما كانت في العشرين من عمرها.
تحب أولادها بكل جوارحها، على الرغم من أنهم عتبوا عليها كثيراً في صغرهم عندما تركتهم وأقفلت غرفتها لتجلس على طرف السرير مع بناتها الصغيرات. وعبثاً حاولت أن تفسر لهم سبب اهتمامها بتلميع الأحذية البيضاء الصغيرة أو لماذا جن جنونها عندما وجدتهم يلعبون بفستان مخملي زيتي اللون لابنتها ذات العينين الخضراوين.
الأولاد صاروا رجالاً وأنجبوا الصبيان والبنات وفهموا وحدهم. لكن الفتيات بقين صغيرات معلقات في خزانة خشبية وفي مخيلة سيدة عجوز تسرح شعرهن كل يوم وتغزل بيدها ضفائر طويلة تعقد طرفها بربطات زاهية اقتطعتها من فستان زفافها وحاكتها انتظاراً.
لا أحد يعلم كم من ليلة روت سمية زهرة المنديل بدموع على فتاة لم تأت. وما زالت تنظر حولها كل ليلة تغلف حزنها بغضب زائف..."لو عندي بيت كانت قامت فيي وشالتني بكبرتي". لكنها لا تريد مساعدة في تنظيف المنزل أو تحضير الطعام في المطبخ، تريد فرحاً تتعكز عليه، ويداً تسرح شعرها لأن عظامها ما عادت تقوى على الانحاء أو الشد. كل امرأة تريد أن تكون أماً لفتاة تصبح لاحقاً أمها عندما يتقدم بها العمر وتتحول طفلة كبيرة.
عبثاً حاول أولادها تعويضها عن حنان البنت، لكن مع تقديرها لكل عطفهم واهتمامهم، كانت دائماً تردد كلمتها الأزلية "متل حنان البنت ما في". هذا الإصرار أشعرهم بعجز فظيع، مع أنهم فهموا ان عبارتها هذه ليست رفضاً لهم بل رفضاً للتخلي عن حلمها.
سمية تعلم أن حلمها لن يتحقق. وفي داخلها يقين أن الفساتين ليست فتيات لكنها تحارب اليأس بالإنكار وتتمسك بمخيلتها حتى اليوم الأخير. تريد أن يكون يومها الأخير هادئاً. أن يحيطها أولادها في سريرها، الصبيان والبنات. تغمرهم وتقبل عيونهم، تمسد الخصلات والضفائر بيديها ثم تغمض عينيها المكحلتين للمرة الأخيرة.
زوجها الذي رحل قبلها أوصاها بأن تعتني بالفساتين وكأنه يوصيها حلماً لم يردها أن تتخلى عنه. رحل وأوصاها بالأمل. لا تذكر أنه نهرها يوماً أو تأفف من أن ملابس الفتيات وأحذيتهن احتلت خزانته حتى أنه أصبح يطوي سراويله ويضعها على كرسي القش خوفاً من أن تزعجها.
أفسح لها مساحة في الخزانة وأعطاها كل المدى لتحلم، وما زالت سمية تحمل معها حلم توزع منه الملبّس الوردي على أمهات الحي، وتتنقل بمكحلتها من بيت الى بيت، تكحل عيون فتيات لم تكحل عينيها برؤيتهن يكبرن بجانبها.