قراءة مدينتين
كنتُ في بلد كالإمارات أعرف أن هنالك أزمة قراءة، أزمة تتشاركها جميع بلداننا العربية وإن بتفاوت، بالكاد ترى أحداً يمسك كتاباً في مكان عام ويتصفّحه. لا علاقة بالمرّة بين أماكن كالشواطئ والمقاهي وبين الكتاب هناك، وهي علاقة كونيّة، وإن حصل ورأيت أحداً يقرأ فإما هو أجنبيّ أتى بهذه العادة معه من حيث أتى، وإما عربي هو غالباً غريب ومنفصل عن المجتمع والعالم الذي يعيش فيه، كنتُ أنا من هؤلاء.
أتيت إلى فرنسا قبل أكثر من سنة لأجد أن العلاقة بين المكان العام والقراءة لا تنحصر بشاطئ أو مقهى، حيث كنت أقرأ، بل تتخطاهما لتصير علاقة بين القراءة والمدينة، لترى كتباً وقرّاء في كل أمكنة المدينة: الأماكن المخصصة كالمكتبات التي تغطّي مدينةً كتولوز كما تغطّي مطاعم ماكدونالدز واثنان آخران من نوعها، إلى الأماكن العامة غير المخصّصة، إضافة للمسابح وضفاف نهر الغارون والمقاهي والحدائق. كل المقاعد المنتشرة في المدينة مؤهلة لتكون مكاناً مألوفاً للقراءة.
وبالحديث عن المكتبات العامة، في تولوز أجد قرّاء، أعني قرّاء قرّاء. في أبوظبي كنت أجد طلّاب مدارس يبحثون عن مكان هادئ لأداء واجباتهم، وفي أحسن الأحوال متصفّحي مجلّات.
أحكي هنا عن الأوقات المخصّصة للقراءة، لأن المشهد العام للقراءة في هذه المدينة يتركّز في مكان آخر، في أمكنة/فترات الانتظار، فالقرّاء وكتبهم يحضرون أثناء الانتظار في موقف الباص، في المترو، على الرصيف العريض أمام المحال، في المؤسسات والدوائر، في طابور ما، وفي أي حالة انتظار يمكن أن يُباغت بها أحدهم (رأيت مرة من يقرأ أثناء مشيه). لذلك يمكن ملاحظة أن حقيبة الكتف أو اليد منتشرة بين الرجال كما بين النساء، لذلك ستجد كتباً في هذه الحقائب متى خطر لك أن تسأل صاحبها عمّا في داخلها. لذلك أيضاً تنتشر لدى دور النشر الفرنسية نسخاً بقطع ورق صغير أو أصغر قليلاً من المتوسّط يمكن حمله في الحقيبة دون عبء، وهي الغالبة في المكتبات، حيث تقلّ كتب القطع الكبير.
في أبوظبي كنت، فعلاً، أخجل من القراءة في مكان عام، وإن لم أكترث في كثير من الأحيان، سأبدو غريباً ومريباً في المجتمع المحيط، وفي أحسن الأحوال متصنّعاً. في فرنسا مارست كل ما ذُكر أعلاه بفرحِ من لقي ما أضاعه منذ زمن. سارعت إلى «أخذ الكتاب بقوّة»، إلى الأخذ بالعادات القرائية للمجتمع هنا، لا أخرج دون حقيبة الكتف، المستودع الدائم للكتاب الذي أقرأه إلى أن أنتهي منه ليُستبدل بغيره، لأني أينما خرجت قد أضطر للانتظار قليلاً أو كثيراً (لم يعد يهم طالما الكتاب معي) ولأني قد أجد وقتاً يسمح لي بالجلوس على أي من مقاعد المدينة للقراءة. ولا يهم عملياً أن كتابي العربيّ هذا قد لا يناسب حجمه التنقّلَ به، قد يكون ثقيلاً أو بقطع كبير. بالنسبة لقارئ آت من الإمارات، ولقي ما لقيه في فرنسا، يبقى ذلك مجرّد تفصيل. فلممارسة القراءة في مكان عام تحت السماء وبين الأشجار والناس وفي ضوء الشمس والفضاء الممتد إلى الضفة الأخرى من النهر، مع آخرين يحملون كتاباً مزيلين بذلك عنّي أي شعور بالغربة، والحياة تتحرّك من حولي، لأجل قراءة في أجواء كهذه لن أمانع بحمل «أعمال كاملة» في الحقيبة.
لكن مشكلتي هنا ليست في ذلك. منذ أتيت عرفت أن ما أرّقني قبل مجيئي إلى فرنسا وهو كيفية اقتناء الكتب العربية، أنها مشكلتي الأساسية. لدي من الكتب في الإمارات ما سأحتاج عشر زيارات سنوية لإحضارها كلّها، مخصّصاً ما يقارب العشرة كيلوغرامات مما يُسمح لي بحمله في الطائرة، منها ما قرأته ومنها ما سأفعل، لكني لن أبقى كل هذه السنوات دون اقتناء المزيد والجديد والقديم من الكتب. في الإمارات حيث لا مكتبات عربية جيدة ولا روّاد لهذه المكتبات، كنت أنتظر معرضَي الشارقة وأبوظبي لأتزوّد بحصّة كانت تفوق عادة ما أستطيع قراءته ضمن السنة، فتجاهلت تماماً فكرة القراءة الالكترونية في حينه، وناكفتها وفنّدتها وعاديتها.
أتيت إلى فرنسا ببعض الكتب، فكّرت ما الذي سأفعله إن فعلاً انقطعت عن الكتب العربية، فلا سوق لهذه الكتب هنا ولا مكتبات وإن تواجدت إحداها كمكتبة «معهد العالم العربي» في باريس فسعر الكتاب فيها أضعاف ما هو عليه في أي بلد عربي، إضافة إلى أن التشكيلة فيه متواضعة. فبدأت جدّياً بالتفكير في الكتاب الالكتروني، مضطراً.
بدأت بإقناع نفسي أن الكتب الورقية ثقيلة وتُشترى، وأن الكتب المنتشرة على الإنترنت بصيغة «بي دي إف» لا حجم لها ومجانية (السرقة مباحة هنا) ومتوفرة بعناوين لا حصر لها، فنزّلت من الشبكة على مدار سنة ما يفوق الألف كتاب، وتراوحت قراءتي خلال السنة الماضية (والأولى لي في فرنسا) بين ما لدي من كتب ورقية وما نزّلته. أبهرتني الكثرة والجاذبية في العناوين التي أمكنني الحصول عليها، وبسهولة، فطمأنت نفسي بأن الأرق الذي لازمني لفترة بخصوص القراءة العربية في فرنسا لن يعود، وباشرت بالتحول إلى الكتب الالكترونية.
قرأت بعض الكتب عبر «الآيباد»، عانيت كثيراً من إطفاء الشاشة المفاجئ إن أطلتُ في قراءة الصفحة (دون لمسها) أكثر مما يجب، ومن التفريغ المفاجئ كذلك للبطارية، وهذه مشكلة ستجبرك على التوقف عن القراءة لدقائق منتظراً أن تشحن البطارية وستضطر بعد ذلك (وفوقه) لتكييف وضعية القراءة بما يناسب سلك ومكان الشحن، ومن تشقلب الشاشة طولاً وعرضاً كلّما مالت يدي قليلاً. كما عانيت من وقوع «الآيباد» ثقيل الظل على وجهي أثناء القراءة متسطّحاً. لكني أقنعت نفسي أن كل ذلك يهون في سبيل كل هذه العناوين التي أمضيت الكثير من وقتي في تنزيلها وتصنيفها وتأمّل جمالها بين فترة وأخرى.
مشاكل «الآيباد» تبدّت مع الوقت، لا يمكنني مثلاً أن أقرأ منه في مكان عام لأن الشاشة غير مؤهلة لإضاءة ظهيرة يوم عادي، لا أقول مشمس، سأرى وجهي منعكساً على الشاشة، لا الكلمات. أضف إلى ذلك أني فعلاً أخجل من حمل «الآيباد» في مكان عام في تولوز وأقرأ منه لأن الجميع يقرأ من كتب ورقية، وسأكون غريباً تماماً كما كنت غريباً حين كنت أحمل كتاباً ورقياً في مكان عام في أبوظبي. حملت «الآيباد» مرّة في المترو في طريقي إلى الجامعة لكني لم أجرؤ على إخراجه من الحقيبة، فأمضيت الطريق مبحلقاً في وجوه الناس وأحذيتهم. وبالمناسبة، حمل «الآيباد» في مكان عام في أبوظبي لا يبعث على الغربة، بل تجد كثيرين في مقهى مطرقين رؤوسهم إلى الجهاز أمامهم، لكن لأي شيء سوى قراءة الكتب، لأن أصواتاً متداخلة لمفرقعات الكترونية تصدر عن كل منها.
بحثت عن حلول عبر الانترنت، مازلت مبهوراً بكل العناوين التي حصلت عليها، ودون تكلفة ودون وزن وتناسب حالتي غير المستقرة مكانياً، لم أرد أن تفلت مني هذه الثروة. بحثت ووجدت جهاز «كندل» من شركة «أمازون». بحثت أكثر عن مدى جودته وكان كل ما وجدته يخص الأحرف اللاتينية، انجليزية ولغات أخرى. أقنعت نفسي (مجدداً) بأنه جهاز مخصص للقراءة، ولا بد بكل الأحوال أن يكون قراءة كتب «البي دي إف» العربية عنه أفضل مما هي عن «الآيباد». فاشتريت واحداً عبر موقع «أمازون» مع شعور بأني أخيراً وجدت حلاً لحالتي وأرقي. وصلني بعد يومين، وفي مساء اليوم ذاته أدركت أني، منذ يومين فقط، قمت بالتصرّف الأشد حمقاً خلال السنتين الأخيرتين. الجهاز، وإن كان خفيف الوزن وبشاشة لا يطلّ رأسك فيها من دون الكلمات، يقدّم لك كتاب «البي دي إف» العربي بأحرف متآكلة وبحجم قد تحتاج إلصاق الشاشة بعينك لتمييز النقطة عن النقطتين و الـ ـغـ عن الـ ـفـ. وقد دفعت به مبلغاً أدفعه في كتب أشتريها من معرض كتاب بشهيّة منفلتة عن عقالها لعدّة أيام. قررت، انتقاماً، أن أكتب قصّته. أعدت تغليفه وقدّمته هدية لأختي.
عدت إلى كتبي الورقية بشعور المنهزم الذي لم يسعَ للانتصار إلا مضطراً، أعدت قراءة بعض ما عندي، صديقتي جلبت لي بعض كتبي من الإمارات في زيارتَين، سأجلب أنا على دفعات ما تبقى، سأجد طريقة لاقتناء المزيد والجديد والقديم من الكتب، لا أعرف كيف، سأتدبّر ذلك، لكني ارتحت بقراري هذا كأني كنت أنتظر حادثة لا عودة بعدها إلى الكتب الالكترونية إلا لغاية محدّدة، قد أضطر لقراءة كتاب بعينه متوفر الكترونياً فقط، لا بأس بحالات كهذه، لن أجادل كثيراً.
فعلت ما أحب بهذا القرار، وتركت ما كنت مُجبراً على التكيّف معه دون حتى الإعجاب به. ما أعرفه الآن أن حياتي في فرنسا ستبقى ناقصة ما لم تكتمل مكتبتي، بكتبي تلحقني إلى هنا مضيفاً إليها ما أستطيعه.