دراما "حماس" في رمضان: تحسّسوا مدافعكم!
في السّابق، عندما كانوا "معارضة"، كان إسهام إسلاميي غزّة الوحيد في ظاهرة "مسلسلات رمضان"، هو التحذير منها وتصويرها للفلسطينيين باعتبارها وحشاً يأكل الوقت والحسنات ويلهي عمّا يستلزمه الشّهر الفضيل من عبادة وصلاة واعتكاف في المسّاجد. أمّا اليوم، وقد انتقل القسم الأكبر من هؤلاء الإسلاميين، على امتداد ردح معقّد من الزمن، إلى فضاءات السّلطة، فقد تغيّرت أمور كثيرة. طفت على السّطح واحدة من خصائص الإسلاميين الأهمّ: نزعتهم لتقديم نسخة ركيكة، ومحافظة، لكل شيء موجود في هذا العالم، بل وللعالم في حدّ ذاته.
أنتجت قناة "الأقصى" التابعة لحركة "حماس" في غزّة، والتي تأسست العام 2006 على يد وزير الداخليّة السّابق فتحي حماد، فيلماً ومسلسلين للموسم الرمضانيّ الرّاهن. التّرويج لهذه الأعمال لم يكن خجولاً ولا مستكيناً. بل جاء، كالعادة، معقودًا بمبالغات إسلاميّة طقوسيّة. مسلسل "الرّوح"، وهو العمل الحمساويّ الأهم هذا العام لجهة تكاليف تصويره، قُدم باعتباره "ملحمة دراميّة هي الأولى من نوعها في فلسطين".
وإذا كان المرء يشعر بضرورة أن يتحسّس مسدسه بمجرّد سماعه عن عمل دراميّ أو فنّي متعلق بفلسطين، أنتجته أيادٍ عربيّة أو غربيّة تفصلها مسافة بيّنة عن العيش الفلسطيني المباشر، فإنّه يشعر أمام ما تقدّم، من ترويج وقرائن وبروموهات خرجت من رحم "دراما الأقصى"، بضرورة أن يتحسّس مدافعه وطائراته وقنابله النوويّة. فماذا قدّمت لنا "حماس"، حقًا، في شقّها "الفني"، هذا العام؟
تقدم "حماس" هذا العام أيضاً مسلسل "يوميّات مرزوقة وشعبان"، وهو مسلسل اجتماعيّ (وقد يعتبره البعض كوميديًا) يمرر نصائح دينيّة حول آداب الطعام والملبس والكلام من خلال إحالات عرضيّة على حياة عائلة غزيّة كلاسيكيّة. كذلك تقدم فيلم "بيّارة الموت" الذي تدور أحداثه حول خطف جنديّ إسرائيليّ ومحاولات تأمينه، وما تستفزّه عملية الخطف من عنف إسرائيليّ. لكن مسلسل "الرّوح"، يبرز باعتباره درّة تاج الموسم.
كتب قصّة المسلسل سليمان أبو ستّة، وأخرجه عمار ياسر التلاوي، وتدور أحداثه –في طموح غير مفهوم وغير مبرر- بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. لم يجرِ التصوير بحقّ في الضفّة المحتلة، إذ اعتبر مخرج العمل والمشرفون عليه أن كتابة "حلويّات الضفّة" على أحد الجدران التي تظهر في واحد من المشاهد، كافياً لإقناعنا بأن المشهد يجري في نابلس، لا في غزّة.
وبطبيعة الحال، يسلّط المسلسل الضوء على "مجموعة من الشباب الذين يجمعهم حبّ الوطن"، في فترة زمنيّة نصف واقعيّة ونصف متخيّلة بعد أو أثناء الإنتفاضة الثانية. ويتوسّع ليشتبك مع تفاعلات مجتمعيّة مفرّغة من العمق. ويقدّم من كل قُطر أغنية، ويحاول –ببراءة؟- سرقة بعض الثيمات الصوريّة والسمعيّة من مسلسلات عربيّة شهيرة في مقدمها "باب الحارة" مع قفز "الآهات البشريّة" التي يؤديها المنشد السوري عدنان الحلّاق بين الفينة والأخرى، في حين يجترّ "فرّان الحارة" في خطابه مع ابنه الشقيّ ما يقوله حسن حسني لأحمد حلمي في "ميدو مشاكل" ليسأل: "ما حدش ياخد ابني ويديني بداله تلاجة؟".
يجلس الشباب أبطال العمل في "ديوان المخيّم" (لا يوجد عندنا شيء اسمه ديوان المخيّم!) بالقرب من "بقّالة المخيّم" (لا يوجد عندنا شيء اسمه "بقّالة المخيم" أيضًا!) ويتناقشون في أمور "المقاومة". هكذا، بكلّ سلاسة. وقد عُلّقت على الجدران صور مطبوعة على ورق A4 لياسر عرفات، وفتحي الشقاقي، وصلاح شحادة، وناجي العلي. ولإكساب العمل "أصالة وقيمة نوعيّة" -حسب فهم أصحابه- تدخل الشخصيّة التي تؤكّد أن خيارنا الوحيد مع إسرائيل هو المفاوضات، وأن المقاومة كلام فارغ!
الجواسيس حاضرون أيضاً. وهم يتنقلون في المخيّم تحت جنح الظلام، كالأفاعي، ويزرعون العبوّات، ويعيثون في الأرض فساداً. أمّا الإسرائيليّون، سواء كانوا جنود الجيش أو ضبّاط المخابرات، فتصويرهم والأحاديث التي تدور بينهم في المسلسل تكاد، ويا للعجب، تتفوّق في رداءتها على تصوير الفلسطينيين لأنفسهم. ففي أحد المشاهد، مثلاً، يتوقّف قائد وحدة إسرائيليّة قبل اقتحام البيت، ليطلب من جنوده أن يتحلّوا بالحذر، فالبيت ربّما تكون فيه أسلحة. أمّا في مشهد آخر، وهنا يطلق الخيال النّار على رأسه ثلاث مرات على الأقل، فإنّ ضابط المخابرات الاسرائيليّة يقول للضّابط الآخر بعد أن يؤكد أن المنظومة الأمنية الاسرائيليّة هي الأقوى في العالم: "علي عبد الجبار، أريده حياً أو ميتًا". يسأله الضابط: "من يكون؟" فيقول له رئيسه: "ستعلم مع مرور الأيّام".
أمّا نحن، فسنعلم أيضًا مع مرور الأيّام، أن فضائيّة "الأقصى" في نتاجاتها الدراميّة للموسم الرمضانيّ، قد أنفقت مبالغ محترمة على أعمال "فنيّة" مليئة بالكليشيهات، تقحم الفلسطينيّ في قوالب، وتخرج علينا بجودة أقلّ من متوسّط المتوسّط. الجانب الوحيد في مسلسل الرّوح، وغيره، الذي يبدو متفوّقاً على تجارب دراميّة فلسطينيّة سابقة (وتلك كانت ترعاها سلطة عرفات) هو الجانب المتعلق بالتصميم والغرافيكس. أمّا ما دون ذلك، فسيّء، وربّما أسوأ.