الأغنية الوطنية مرآة السلطة
للأغنية الوطنية في مصر ميراث ملتبس، إن لجهة تاريخها، أو تعريفها، أو تطورها، أو لنقل تحولاتها الحادة على مدار قرن تقريباً وهو عمر هذه الأغنية.
الانقسامات الحادة حول مفهوم "الأغنية الوطنية" وانحيازاتها نابع من الاختلاف حول مفهوم الفن ذاته، وهويته.
ظهر الانقسام بعد "ثورة" يوليو 1952 وبعدما امتلكت الدولة وحدها آليات الإنتاج، وتحول الفنانين إلى رسميين وخوارج. تبنت أغنيات أم كلثوم وعبد الحليم الوطنية "المحايدة"، رؤية السلطة لهوية مصر القومية ذات العمق الإسلامي.. وعلى الهامش بزغ صوت الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام الساخط على سلطوية الدولة وفنها الرسمي..
على هذين المسارين سار قطار الأغنية الوطنية، وشهدت تحولات خطاب الدولة. فمن اشتراكية ناصر "على راس بستان الاشتراكية" إلى عبد الحليم حافظ، ثم ملحمية البعد القومي لمصر في "أوبريتات" جماعية مثل "وطني حبيبي الوطن الأكبر" لمحمد عبد الوهاب، والذي ضم مطربين من جنسيات عربية عدة.
وصولاً إلى دولة ممسوخة في عهد السادات، عهد التغني بمصر ونيلها وشبابها وترابها، وتعتبر "يا حبيبتي يا مصر" لشادية، مثالاً على ذلك. واعتبرت الأغاني في هذه الفترة استدعاء لصورة سياحية، ولذلك الكيان الغامض المبهم "الشعب". هكذا غاب الخطاب الأيديولوجي الواضح في الفترة الناصرية وحل محله خطاب أكثر ميوعة يستخدم الحداثة، جنباً إلى جنب، مع الخطاب الماضوي الما قبل حداثي.
لعل هذه الأغنية التي تحمل سمات الخطاب "المائع" كانت أكثر صموداً تاريخياً، وراحت نسخها تتعاقب وتتكاثر كالطفيليات: من "يا حبيبتي يا مصر"، مروراً بـ "ماتقولش إيه ادتنا مصر" وصولا إلى "ماشربتش من نيلها".
لم يتوقف إنتاج المزيد من اﻷوبريت، بصورة رسمية وفي حضور رئيس الجمهورية، لا سيما "اخترناك" التي كانت الأوبريت الرسمي لإحتفالات أكتوبر، وأثارت سخرية الناس وانتقاداتهم. ذلك لأنها ثبتت مجموعة من الفنانين فيها، بدا وكأنهم لا دور لهم غير المشاركة في الأوبريت. وبدوا وكأنهم موظفون معينون من قبل الدولة لغناء الأوبريت فقط. وأبرز هذه الأسماء عبد السلام أمين كاتب الأغاني الوطنية وأغاني المسلسلات الدينية، وعمار الشريعي، ومطربون مثل علي الحجار ومحمد الحلو ومحمد ثروت.
..ثم إذ بالأغنية الوطنية بشكلها الملحمي تظهر. وقد أصبحت تأشيرة دخول المطربين العرب إلى مصر، من نجاح سلام ووردة ونور الهدى وفيروز، وانتهاء بلطيفة ووائل كفوري ونانسي عجرم وهيفاء وهبي.
في ظل هذا التراكم التاريخي، جاءت الأغاني الوطنية "الثورية" في خضم ثورة 25 يناير، محبِطة. إذ لم تتعد محاولات بائسة من مجموعة فرق "الأندرغراوند" قدموا أعمالاً "تغنت" بالحرية، إنما بفجاجة..
كان يُنتظر أن يُستغل العام الأول للثورة كفرصة جيدة للتجارب الفنية الجديدة، ولتقديم "فن ثوري" ليس في مضمون كلماته، إنما في بنيته وتعبيره.
الفرصة تلاشت تماماً مع تعالي الحناجر بأغاني الشيخ إمام، كنموذج مثالي للفن ثوري، ويعبر عن نبض تلك الفترة وعن أغنية وطنية كانت حبيسة الفصائل اليسارية وثلة من المثقفين.
ومن ثم مع تنامي الغضب ضد "الإخوان" وإسقاط مشروعهم في 30 يونيو/حزيران تغير المشهد تماماً. بُعثت رموز الدولة القديمة الثمانينية والتسعينية من الرماد، واستفاقت مصر كلها، وفجأة على أغنية "تسلم الأيادي.. تسلم ياجيش بلادي". أغنية بلحن الأغنية "المقتبس" من لحن "والله لسه بدري يا شهر الصيام" وتحديداً من الجملة الموسيقية المصاحبة لـ "تم البدر بدري والأيام بتجري" للملحن العذب محمود الشريف.
هاهو شبح "اخترناك" إذاً يعود إلى الظهور على يد نقيب الموسيقيين مصطفى كامل، مؤلفاً وملحناً، ومجموعة محنطة من الفنانين، من هشام عباس وحكيم وخالد عجاج وإيهاب توفيق وغادة رجب أدوا "تسلم الأيادي". هؤلاء، أدوات التسعينات، ظهروا علينا ليعيدوا تكريس الأغنية الوطنية المرتمية في أحضان الجيش، والمنحازة إليه، والتي تفوض عبد الفتاح السيسي للقضاء على الإرهاب.
على الرغم من ركاكة هذه الأغنية، فقد حازت ما لم تحزه أغنية وطنية أخرى من شهرة، قديمة كانت أو حديثة. كل يوم يمر، يزداد إنتشار الأوبريت، وطغات أغان مثل "يا بلادي" لعمر جمال و"ازاي" لمحمد منير وحتى أغاني الشيخ إمام، ورفيقه أحمد فؤاد نجم الذي كتب عن الأغنية في عموده بجريدة الوطن.
الأغنية تعبر بفجاجة عن إنحيازها إلى الجيش، بما يمثله من كيان حاضن للدولة بصورتها الحداثية المشوهة، وذلك مع موروث إسلامي عروبي وإحياء هذا الموروث في صورة المؤسسة الأكبر.
الآن لا مكان إلا لـ"تسلم الأيادي" على كل المنابر والقنوات التي قاطعت الكثير من الأعمال الجديدة، إذ لهذه الأغنية أولوية ومرجعية لسلطة ما قبل ثورة 25 يناير، وبكل سيئاتها. وبالتالي لا مكان اليوم لأي عمل فني تجريبي جديد، كالفِرَق التي ظهرت مع الثورة، من "وسط البلد" و"كايروكي" وغيرهم.
الأغنية تعبر عن الحاجة إلى الجيش –ومن ورائه الدولة- كمخزون معنوي للحفاظ على مصالح من فوجئوا بالثورة ورأوا في 30 يونيو بارقة أمل في استعادة أمجادهم. "تسلم الأيادي" هي خطاب هؤلاء، ونموذج عن الإنحياز المطلق لسلطة تدعي الديموقراطية. ربما، من خلال شكل الأغنية الوطنية وتطورها يمكن فهم.. السلطة.