أرشيف فلسطين: كيف يخضرُّ السراب
كأن العالم يعرف أنّ لجوء الفلسطينيين سيطول فأنشأ لهم، على عكس اللاجئين جميعاً، وكالتهم الخاصّة التي لا تُعنى إلا بهم؛ تعليمًا وتشغيلاً وصحّة. "الأونروا" التي خرجت إلى النور بقرار الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة قبل أسبوع واحد من ولادة "المفوضيّة الساميّة لشؤون اللاجئين" كانت، ولا تزال، هيئة ذات خصوصيّة قانونيّة وتشغيليّة. فهي، مثلاً، لا تخدم سوى الفلسطينيين، ولا تعمل سوى في مناطق محددة، وتؤكّد كلّما استدعى الأمر أنّها بعيدة من السياسة، ولا هدف لها إلا تسيير أمور اللاجئين حتى "يتفق طرفا النزاع على حلّ".
خلال عمرها الذي يزيد قليلاً على عقود ستة، لم تعاصر "الأونروا" اللجوء الفلسطينيّ وتسيّر أموره فحسب، بل قامت بتوثيقه بالصوت والصورة. هذا التوثيق الذي انتهى أرشيفًا ضبابيًا، مجهول الماهيّة والكميّة ومغيَّباً في مخازن الأونروا في غزّة وعمّان، عاد مؤخرًا لتتكشّف تقاسيمه وتتجلّى ويُعلَّق بعض مخزوناته على الحائط "معرضاً" لسائح، أو مهتمّ، أو لاجئ من نسل لاجئين.
الأرشيف الذي أقرّته منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة "اليونيسكو" العام 2009، باعتباره جزءًا أصيلاً من "ذاكرة العالم الجمعيّة" كان قد بدأ "يفسد ويتعفّن" في الأدراج والخزائن قبل أن يُطرح على الطاولة مشروع تحديث هذا الأرشيف ونشره. فيليبو غراندي، مفوّض عام الوكالة، تحدّث بديبلوماسيّة عالية عن المشروع، مؤكدًا أنّ تجربة اللجوء شكّلت الشطر الأعظم من الهويّة الجمعيّة الفلسطينيّة وأنّ الحفاظ على ما يوثّق هذه التجربة أمر على قدر بالغ من الأهميّة.
جاء تمويل المشروع (حوالى مليون دولار) بشكل أساسي من حكومتي الدنمارك وفرنسا، وبمساهمات من القطاع الخاص الفلسطينيّ. هدف المشروع النهائيّ هو التحويل الرقميّ والنشر، لمخزون هائل من المواد التي توثق غربة الفلسطينيين وشتاتهم. 430 ألف صورة، 85 ألف شريحة، 730 تسجيل فيديو و75 فيلمًا لمراحل زمنية مختلفة من التيه الفلسطينيّ، ابتداءً من التطهير العرقيّ العام 1948 وحتى الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية، مروراً بحرب الأيام الستّة وحرب لبنان الأهليّة وانتفاضة الحجارة.
تدريب مهني في مركز أونروا/يونيسكو في قلنديا بالضفة الغربية - أرشيف الأونروا
تدريب مهني في مركز أونروا/يونيسكو في قلنديا بالضفة الغربية - أرشيف الأونروا
عمليّة معالجة الصور والمواد البصريّة لا تزال في بدايتها، لكنّ دفعة أولى من المواد المعالجة خرجت إلى العلن عبر موقع إلكتروني دشّنته "الأونروا" خصيصاً لهذا الغرض.
ويتضمن الموقع صفحة لأشرطة فيديو، هنا أحد نماذجها بعنوان "كما يجب أن يكون".
إضافة إلى معرض "الرحلة الطويلة" الذي افتتح الخميس في غاليري "المعمل" بالمدينة القديمة بالقدس. المعرض الذي سيستمر شهراً كاملاً ما هو إلا حلقة أولى من سلسلة معارض ستُقام في الضفّة الغربيّة وغزّة وأماكن تجمعات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن ولبنان وسوريا.
ويتضمن الموقع صفحة لأشرطة فيديو، هنا أحد نماذجها بعنوان "كما يجب أن يكون".
إضافة إلى معرض "الرحلة الطويلة" الذي افتتح الخميس في غاليري "المعمل" بالمدينة القديمة بالقدس. المعرض الذي سيستمر شهراً كاملاً ما هو إلا حلقة أولى من سلسلة معارض ستُقام في الضفّة الغربيّة وغزّة وأماكن تجمعات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن ولبنان وسوريا.
إسرائيل، بطبيعة الحال، عبّرت عن انزعاجها من هذا الجهد التوثيقي الذي أقدمت عليه "الأونروا". يجال بالمور، المتحدث باسم الخارجيّة الاسرائيليّة، اعتبر المشروع منحازاً ومعبّراً عن ترف إلكترونيّ، ورأى فيه دليلاً على "غياب الموضوعيّة والحكمة" في إدارة موارد ومقدرات الوكالات التابعة للأمم المتحدة، والتي تركّز، بحسب ادعائه، على "محنة" بعينها، مديرة ظهرها لأزمات أخرى راهنة.
كلمات بالمور ما هيّ إلا تعبير منمّق وديبلوماسي عن إصرار إسرائيل الدائم على حرمان الفلسطينيين من إنشاء سرديّة محكمة مدعومة بالوثائق والصور. الدولة التي تحتكر، بادعائها تمثيل اليهود، المظلوميّة الكونيّة، والتي يخرج نائب وزير خارجيّتها عبر "يوتيوب" ليشرح للعالم أنّ الضفة الغربيّة ليست أرضاً محتلة بل أرضاً متنازعاً عليها، لن تدّخر جهداً في منع الفلسطينيين من الإمساك بخيوط قصّتهم منذ الخيمة الأولى.
مخيم مغازي في قطاع غزة (1965) - أرشيف الأونروا، جاك مادوفو
مخيم مغازي في قطاع غزة (1965) - أرشيف الأونروا، جاك مادوفو
أيًا تكن دوافع "الأونروا"، ومهما كانت جهودها محدودة ومنزوعة السياسة، يظلّ الواجب بكامل إلحاحه ملقى على عاتق الفلسطينيين وحدهم، ليسيّسوا هذا المشروع ويستردّوا روايتهم، وأرشيفهم، ويكتبوا حكاياتهم ويقصّوها على العالم، مدعّمة بالصور. هذا موقع إلكتروني. وتناقله وتدعيمه والتأثر به لاستلهام مشاريع أخرى تصبّ في الهدف ذاته، ليس حكراً على مكان وزمان، وهو أكثر طواعية من صور في غاليري، لن تستطيع، في النهاية أن تجوب العالم.
محمود درويش فهم هذا التحدّي وعرف كيف "يخضرُّ السراب". همس لشعب امتزج فيه، بشهادة جبرا ابراهيم جبرا، جمالُ الطبيعة بالمأساة، أنّ من يكتب حكايته "يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً!".