"الترامبيّة" واقتصاد العالم: الفوضى وسلسلة الأحداث البائسة
كثيرون من أبناء الأجيال الشابّة يربطون عبارة "تأثير الفراشة" بالفيلم المعروف الذي عُرض للمرّة الأولى منذ عقدين، واحتفظ بشهرته، التي طغت على المصطلح، حتّى اليوم. غير أنّ الفيلم نفسه، كما تشير مقدّمته بصراحة، استعار إسمه من المصطلح الأدبي الذي أطلقه عالم الرياضيّات إدوارد لورينتز، منذ أكثر من ستّة عقود. هل يمكن لرفرفة فراشة في البرازيل، سأل لورينتز، أن تُطلق عنان إعصارٍ في تكساس؟ أو أن تمنعه؟ في ذلك السؤال المجازي، كان لورينتز يصوّب على تداعي الأحداث الخفيّة وترابطها، وفق منطق السببيّة، بما يضع نظامًا مضمرًا، لعالمٍ يُظهر العشوائيّة لنا. تفسير هذا الترابط، كان همّ "نظريّة الفوضى".
لم تكن حلقات الاقتصاد العالمي متداخلة يومًا، بين بقاع الأرض، أكثر مما هي عليه اليوم، في أنظمة النقد والمال والتجارة وسلاسل التوريد. وتداعي الأحداث البائسة عبر هذه الحلقات، من شرق الكوكب إلى مغربه، يذكّرنا عند كلّ أزمة اقتصاديّة بأثر الفراشة. غير أنّ رصد تداعي أحجار الدومينو في عالم الاقتصاد، أسهل من رصده في عالم الأرصاد الجويّة، الذي شغل بال لورينتز، وإن استحال تتبّع جميع المتغيّرات المؤثّرة في أيٍّ من العالمَين. وفي أحجار دومينو الاقتصاد التي يرصدها الجميع اليوم، لن يكون دونالد ترامب، وما ستأتي به "الترامبيّة" في جولتها الثانيّة، مجرّد رفرفة فراشة صغيرة. ورفرفة تنّين بهذا الحجم، أكبر من أن تقتصر نتائجها على إعصارٍ يتيم، في بقعة واحدة.
"الترامبيّة" والحروب التجاريّة المنتظرة
في "الترامبيّة"، كما ألفناها في جولتها الأولى، نزعة لاستعادة إرث السياسة "الميركانتيلية"، التي سادت في أوروبا لغاية القرن 18. الاقتصاد هو حقل الدولة للصراع من أجل الفوائض التجاريّة، في علاقتها مع الأمم الأخرى، لا أكثر ولا أقل. ولأنّه لا يمكن لجميع الدول أن تحقّق الفوائض في علاقتها مع بعضها البعض، فعلاقة أي دولة مع الدول الأخرى تقوم على قاعدة "غالب أو مغلوب". إنّها القاعدة الصفريّة، التي يستحيل معها طرح معادلات "التعاون المتعدّد الأقطاب" المألوفة. العولمة، وفتح الأسواق، والتكامل الإقليمي، والتخصّصيّة في الإنتاج، وغيرها من المفاهيم التي بشرّت بها الليبراليّات الغربيّة تقليديًا، ليست سوى سذاجة في قاموس هذا النوع من الحروب التجاريّة.
لا عجب، والحال هذه، أن يكون محور السياسة الخارجيّة "الترامبيّة" تحدّي أكبر التكتّلات الاقتصاديّة الصناعيّة، الصين، وأن يتعهّد ترامب خلال حملته الانتخابيّة الأخيرة بفرض رسوم جمركيّة جديدة تصل إلى 60% من أسعار السلع الصينيّة المستوردة. وفي الحرب التجاريّة بين الطرفين، ثمّة مكانة خاصّة للصراع على سوق السيّارات الكهربائيّة، بعدما تفوّقت شركة "بي. واي. دي." الصينيّة على منافستها الأميركيّة "تسلا"، من حيث الإيرادات الفصليّة. وهنا يمكن يمكن فهم حماسة إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لـ "تسلا" وصاحب منصّة "إكس" لترامب، الذي يعد بخوض الحرب التجاريّة لحماية سوق السيّارات الكهربائيّة في الولايات المتحدة.
وحين تُفتح جهنّم الحروب التجاريّة، من الصعب أن تنحصر حلقاتها بين الدولتين. ففائض الإنتاج الصيني، حين تُسدّ أمامه أبواب الولايات المتحدة الأميركيّة، سيضطر للبحث عن أسواق بديلة أخرى. وحين يفعل ذلك، سيثير حتمًا حفيظة دول صناعيّة أخرى تبحث عن حماية صناعاتها. ومتى نشبت نيران الحروب التجاريّة بين كبرى التكتلات الصناعيّة، يصعب إطفاء لهيبها، أو حصر تداعياتها.
على سبيل المثال، في تجربة سابقة خلال العام الحالي، وبالتوازي مع فرض إدارة بايدن لرسوم جمركيّة جديدة على السيّارات الكهربائيّة الصينيّة، ذهبت تركيا بالاتجاه نفسه، وفرضت رسوم جمركيّة جديدة على تلك السيّارات بنسبة 40%. وفي الشرق الأوسط، كان المملكة العربيّة السعوديّة تزيد من العراقيل، لمنع تسريع مفاوضات التجارة الحرّة ما بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي. أمّا الاتحاد الأوروبي، فكان جزءًا من الحرب التجاريّة نفسها، بعدما رفع الرسوم الجمركيّة على السيارات الكهربائيّة الصينيّة من 10% إلى 45%.
الضحيّة الأولى هنا هي أسعار المستهلك، وضرب الجهود التي بذلها خلال العام الراهن، لخفض معدلات التضخّم العالميّة، والتي تمثّل النافذة المضيئة التي احتفت بها المصارف المركزيّة الغربيّة مؤخرًا. إلا أنّ مصدر الخطر على الأسعار في الأسواق العالميّة لن يقتصر على الحروب التجاريّة. فترامب، على ما تدل التجربة، لم يكن معجبًا بسياسات التشديد النقدي، أي رفع معدلات الفوائد، والهادفة لتخفيض معدلات التضخّم. بهذا المعنى، سيكون متوقّعًا أن يجهد ترامب لتسريع الخروج من حقبة التشديد النقدي، التي دخلها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي منذ آذار 2022، وبدأ يخرج منها بشكلٍ متدرّج مؤخرًا.
المتاريس في وجه أوروبا
ما إن صدرت نتيجة الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة الأخيرة، حتّى سارعت المفوّضيّة الأوروبيّة إلى التذكير بتقدّم المباحثات، لزيادة الوردات الأوروبيّة من الغاز المُسال الأميركي. كانت تلك طريقة الأوروبيين في اتقاء شرّ القادم إلى البيت الأبيض، الباحث عن تقليص العجز التجاري لبلاده، في تداولاتها مع أوروبا. دول الاتحاد الأوروبي، أكثر من يعرف أنّ نيران الحروب التجاريّة التي سيشعلها ترامب ستطالهم، بعدما وعد بفرض تعريفات جمركيّة جديدة تصل إلى 20%، على الواردات الأوروبيّة. في الحروب "الماركنتيليّة"، المعادلة صفريّة دائمًا، حتّى مع الحلفاء.
أمام هذا الواقع، سيكون الاتحاد الأوروبي أمام استحقاق تحقيق المزيد من الاستقلاليّة والاعتماد على الذات، في مواجهة تحديات "الترمبيّة" العائدة. وهذا سيعني -مجددًا- المزيد من التدابير الحمائيّة، الهادفة إلى حماية القطاعات الإنتاجيّة الأوروبيّة، والمزيد من الضغوط على ميزانيّات دول الاتحاد، أو على أسعار السلع الواردة إليه.
إلا أنّ هذه التحديات لن تكون أصعب ما سيواجهه الاتحاد الأوروبي، بعد وصول ترامب. "الترامبيّة" غير معجبة أساسًا بتجربة "الناتو"، واعتماد الدول الأعضاء فيه على إنفاق الولايات المتحدة العسكري. وهو ذكّر مرارًا وتكرارًا بضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي في الدول الأوروبيّة، تحت طائلة التخلّي عنهم، في مواجهتهم مع صديقه بوتين. وفي جولة "الترامبيّة" السابقة، ثمّة شهود تحدّثوا عن محاولة ترامب سحب بلاده من حلف "الناتو" نفسه، قبل أن يتراجع في اللحظات الأخيرة.
هكذا، سيكون على الدول الأوروبيّة زيادة الإنفاق الدفاعي إذا أرادت استرضاء القادم إلى البيت الأبيض، أو سيكون عليها القيام بالفعل نفسه إذا قلّص ترامب دور بلاده داخل حلف "الناتو". في الحالتين، النتيجة واحدة. وعلى حلفاء آخرين مثل تايوان القيام بالأمر نفسه، تحت طائلة نفس الخطر، بشهادة كلام ترامب نفسه. والشكوك بمظلّة الولايات المتحدة الدفاعيّة، ستدفع حلفاء آخرين في أماكن أخرى من العالم للاعتماد على الذات، والسباق باتجاه التسلّح. النظام الدفاعي، الذي لطالما قادته الولايات المتحدة في أماكن عدّة من العالم، لن يكون نفسه.
تطول سلسلة الأحداث غير السعيدة، المتوقّعة في أماكن عدّة حول أنحاء العالم. لكنّ الأكيد هو أنّ الاقتصاد العالمي سيذهب باتجاهٍ تسوده الفوضى الظاهرة، التي تتحكّم بها أحداث متتالية ومترابطة في أنحاء عدّة من الكوكب. يحاول ترامب دائمًا تصوير نفسه كشخص يصعب التنبّؤ بأفعاله، وهو ما يفترض أن يرهب خصومه، قبل محاولة التقليل من شأن وهيبة الولايات المتحدة الأميركيّة. إلا أنّ هذه الصفة تدفع حلفاء الولايات المتحدة نفسهم للقلق، في الاقتصاد والسياسة والشؤون الدفاعيّة. وهي ستزيد من حالة عدم اليقين، التي تحيط بمستقبل الاقتصاد العالمي. وهذه مشكلة بحد ذاتها.