موازنة لبنان 2025: كأن الحرب لم تبدأ بعد

رأي علي نور الدين
الثلاثاء   2024/11/12
ترك مشروع قانون الموازنة من دون دراسة سيتيح إصداره بمرسوم من قبل الحكومة (دالاتي ونهرا)
من الناحية الدستوريّة، التزم مجلس الوزراء بالمهلة المنصوص عنها لإحالة موازنة العام المقبل إلى مجلس النوّاب، بعدما صادق على مشروع قانون الموازنة قبل نحو أسبوع من نهاية أيلول الماضي، أي قبل بداية عقد تشرين الأوّل التشريعي كما يفرض الدستور. بل وأكثر من ذلك، حرصت الحكومة على إحالة مشروع القانون قبل أكثر من 15 يوماً من بداية العقد، لتحقيق الشرط الذي يسمح بإصدار الموازنة بموجب مرسوم حكومي، إذا فشل مجلس النوّاب في التصويت عليها قبل نهاية شهر كانون الثاني المقبل. هكذا، يكون أمام مجلس النوّاب ثلاثة خيارات اليوم إزاء الموازنة: مناقشتها وتعديلها ثم إقرارها، أو رفضها، أو تجاهلها لتُصدرها الحكومة كما هي بمرسوم.

هذا من الناحية النظريّة المجرّدة. أمّا من الناحية الواقعيّة، فمشروع قانون الموازنة بات بعيداً جدًا عن ما تحتاجه الماليّة العامّة اليوم، طالما أنّ أرقامه استندت إلى افتراضات وتقديرات ما قبل الحرب الموسّعة. وللتذكير، الموازنة هي تقديرات مُسبقة للواردات المتوقّعة خلال السنة المقبلة، والتي تُجاز على أساسها الجباية، في مقابل سقوف الإنفاق التي ستُتاح للحكومة في نفس الفترة. مشروع الموازنة المطروح اليوم، والمُعد قبل 23 أيلول الماضي، لا يأخذ بعين الاعتبار تأثير الحرب على الإيرادات الفعليّة، ولا يتفاعل مع حاجات الإنفاق الطارئة والمُستجدة. وعلى هذا الأساس، بات عبثيًا اعتماد المشروع أساسًا للمناقشة في مجلس النوّاب، أمّا تركه ليصدر بمرسوم فسيكون خطيئة مميتة.

أرقام الموازنة وفرضيّتها
وبحسب مشروع موازنة العام 2025، وكما تم إقرارها في مجلس الوزراء، قدّرت إيرادات العام المقبل بنحو 4.97 مليار دولار أميركي، مقارنة بـ 3.45 مليار دولار كما في موازنة العام الحالي. وبهذا المعنى، توقّعت الحكومة ارتفاع الإيرادات العامّة –المقدّرة بحسب الموازنة- بنحو 1.52 مليار دولار بين الفترتين. ومن المهم الأشارة هنا إلى أنّ هذا التوقّع لم يحمل فعليًا أي مبالغة، إذ أن الإيرادات الحقيقيّة التي تم تسجيلها خلال العام الحالي كانت أعلى بنسبة كبيرة من الإيرادات التي تم تقديرها في موازنة العام 2024، وهو ما فرض إعادة النظر بتقديرات الإيردات خلال العام المقبل، وزيادتها، كما جرى بالفعل.

غير أنّ المختلف اليوم هو توسّع نطاق الحرب في مناطق واسعة من أنحاء لبنان بعد 23 أيلول الماضي، أي بعد إقرار الموازنة –وفق التقديرات الحاليّة- في مجلس الوزراء. وهذا ما يفرض مجددًا العودة إلى تقديرات الإيرادات، ومواءمتها مع المستجدات الراهنة، وخصوصًا من ناحية تأثير الحرب على معدلات الجباية الضريبيّة. وهنا، يمكن التذكير بأن وزارة الماليّة يمكن أن تستند إلى معطيات الجباية خلال الشهرين الماضيين، لتقدير معدلات الجباية الفعليّة خلال فترة الحرب، وهو ما يمكن أن يساعد في تقدير أرقام الجباية المتوقّعة خلال العام المقبل. وعلى هذا الأساس يمكن تحديث أرقام الموازنة بشكل واقعي.

في المقابل، نصّ مشروع موازنة العام المقبل على زيادة موازية في حجم النفقات والاعتمادات المرصودة لمختلف الإدارات والمؤسّسات العامّة. إلّا أنّ هذه الزيادة لم تأخذ بعين الاعتبارات الحاجات التي تفرضها الحرب، إذ لم يتم زيادة الاعتمادات المرصودة للجيش أو قوى الأمن الداخلي أو الأمن العام، كما لم تلحظ الموازنة أي زيادة على بند الإنفاق على الاستشفاء. بل وعلى العكس تمامًا، قلّص مشروع الموازنة باب الإنفاق على الدعم الممنوح لوزارة الصحّة لتأمين الأدوية، وهو ما يتعارض مع الحاجات التي تفرضها الظروف الراهنة. وبشكل عام، يمكن القول أنّ بنية الإنفاق العام، كما تم التخطيط له في موازنة العام المقبل، لم يتناسب مع الوقائع التي فرضتها الحرب منذ شهر أيلول الماضي.

موقف كنعان والخيارات المتاحة
على هذا الأساس، يبدو رئيس لجنة المال والموازنة النيابيّة إبراهيم كنعان مدركًا لمدى ابتعاد نصّ الموازنة عن الوقائع التي استجدّت منذ بداية الحرب، كما يدرك في الوقت نفسه أنّ ترك مشروع قانون الموازنة من دون دراسة سيتيح إصداره بمرسوم من قبل الحكومة. ولهذا السبب، بات كنعان يتمسّك مؤخرًا بمبدأ استعادة الموازنة من قبل الحكومة، لتُعاد صياغتها وفق تقديرات جديدة، قبل العودة إلى درسها في لجنة المال والموازنة، ومن ثم التصويت عليها في الهيئة العامّة للمجلس النيابي.

وبهذا الشكل، يحاول كنعان –من خلال الإصرار على سحب المشروع من قبل الحكومة- قطع الطريق على إصدار الموازنة بمرسوم. مع العلم أن المهل الدستوريّة تمنح الحكومة هذا الحق بحلول نهاية كانون الثاني المقبل، إذا لم يتم استرداد مشروع قانون الموازنة، أو لم تتم مناقشته والتصويت عليه في المجلس النيابي.

في المقابل، وفي حال أصرّت الحكومة على الصيغة المطروحة حاليًا لمشروع قانون الموازنة، وإذا أصرّ البرلمان على عدم المضي بهذه الصيغة، سيكون أمام النوّاب خيار التصويت لإسقاط المشروع. وفي هذه الحالة، سيُفرض على الحكومة –كما جرى سابقًا في لبنان- العودة لاعتماد قاعدة الإثني عشريّة، أي الإنفاق وفق السقوف التي كانت محددة في موازنة العام 2024، والتي تقل عن الحاجات الفعليّة الراهنة للإدارات العامّة.

أموال الدولة المُتراكمة في المركزي
لا يوجد أي تعارض بين المطالبة بتعديل سقوف الإنفاق للعام 2025، وفق الحاجات الطارئة، وإن فرض ذلك زيادة هذه السقوف، والكلام عن ضرورة لحظ تأثير الحرب على الإيرادات العامّة في مشروع الموازنة. فهذا النوع من الإجراءات، قد يفرض زيادة في العجز المقدّر في الموازنة، لكنّ الدولة قادرة على تغطية هذا العجز من خلال أموالها المتراكمة في مصرف لبنان، ضمن الحساب 36. وهذا لن يؤدّي بطبيعة الحال إلى مطالبة مصرف لبنان بتمويل هذا العجز عبر إقراض القطاع العام، بل سيفرض فقط منح الدولة حقوقها الموجودة في ذلك الحساب.

فمن الناحية العمليّة، انتهجت الدولة اللبنانيّة سياسة تقشّفية قاسية جداً خلال العام 2024، وهو ما راكم نحو 1.66 مليار دولار أميركي في حسابات الدولة لدى مصرف لبنان، بين منتصف شهر شباط ونهاية شهر أيلول الماضي. وبحلول نهاية شهر أيلول، بات حجم هذه الأموال الإجمالي يقدّر بـ 5.97 مليار دولار، وهو ما يمنح الحكومة هامشًا لزيادة الإنفاق على الحاجات الملحّة التي تفرضها الحرب حاليًا. باختصار، وفي حال تسجيل عجز في موازنة العام 2025، يمكن تغطية هذا العجز من حسابات الدولة، من دون الاضطرار للاستدانة من أي طرف.

المشكلة الأهم اليوم، تبقى محدوديّة الاعتمادات وسقوف الإنفاق المتوفّرة بحسب موازنة العام 2024، مقارنة بالحاجات الطارئة المرتبطة بالنزوح. ويعود ذلك تحديدًا لسياسة التقشّف التي أشرنا إليها سابقًا، والتي تمنع الدولة من استخدام إيراداتها العامّة المتوفّرة بالفعل لدى مصرف لبنان. ومن المعلوم أن هذه السياسة تقوم أساسًا على تقديرات منخفضة جدًا وغير واقعيّة للإيردات العامّة في موازنة العام الحالي، لتبرير هذا التقشّف. وإلى أن يعتمد لبنان موازنة جديدة خلال العام المقبل، تراهن الحكومة على الحصول على سلف خزينة لمعالجة هذه الإشكاليّة، خلال الفترة المتبقية من العام، وهو ما سيمثّل التفافًا على فكرة الموازنة العامّة، بدل تعديل الموازنة بملحق خاص لزيادة سقوف الإنفاق.