محنة اللجوء في لبنان..من رخاء المقاهي إلى رثاثة المخيمات

محمد حجيري
الأحد   2024/07/21
فضيل الورتلاني ( الثاني من اليسار) بعد سيد قطب
أهداني الصديق حسن شمص بعض القصاصات من أيام زمان، مستلّة من مجلة "الأحد"(اسبوعية سياسية عربية مستقلة)، انضمّت منذ زمن إلى لائحة المطبوعات الآفلة والزائلة التي كانت تزيّن وتنعش واحة بيروت الثقافية، اغتيل صاحبها نقيب الصحافة، رياض طه، في بداية المد الاسلاموي في بيروت عام 1980. والقصاصات تتضمّن ملفاً عن "اللجوء السياسي" إلى بيروت في زمن الدكتاتوريات كتبه الصحافي ميلان عبيد، يقول في انطلاق الثورات والانقلابات في العالم خاصة في الوطن العربي، برزتْ مشكلة اللجوء السياسي وما تجر معها من متاعب وانعكاسات على الدول. ولعل لبنان في موقعه ونظامه، كان من أكثر الدول تعرضاً لمشكلة اللجوء السياسي ومتاعبه. أبرز هذه المشكلات ما كان منها مع سوريا، إذ إن أرض لبنان هي الأقرب والأنسب للاجئين السياسيين الذين يجدون على أرضه ومقاهيه الحرية والأمان.

في وقت ليس في لبنان قانون للجوء، لعل أبرز واقعة يذكرها ميلان عبيد لجوء سياسي حدث عام 1948، بعد ثورة اليمن الشهيرة على الإمام أحمد بقيادة المفكر الجزائري الأصل الاسلامي الهوى والتوجه، الفضيل الورتلاني وعبدالله الوزير وغيره من الثوار. ولكن بعد أن فشلت الثورة ألقي القبض على عبدالله الوزير واخرين معه وأعدموا بينما هرب قائد الثورة الفضيل الوتلاني على ظهر أحد المراكب عن طريق البحر، وقد حاول انذاك اللجوء إلى أكثر من بلد عربي فكان يصطدم بالرفض إلى أن وصل إلى لبنان في عهد حكومة رياض الصلح فسمح له بالدخول إلى لبنان وأعطي حق اللجوء السياسي رسميا وللمرة الأولى أحدثت قضيته ضجة كبرى في العالم العربي، وكان يلقب  بـ"غيفارا الاسلام السياسي".
ومن الحوادث الطريفة والمخجلة التي تذكرها مجلة "الأحد" في إطار اللجوء السياسي، تلك التي حدثت عام 1962 على أثر الانفصال عندما هرب عبد الحميد السراج، قاتل فرج الله الحلو، ووزير داخلية الاقليم السوري في الجمهورية العربية المتحدة من السجن إلى الأراضي اللبنانية، ولجأ إلى بيت صبري حمادة يومها نقله الأخير بسيارته الخاصة إلى المطار حيث سافر إلى مصر وقد حدثت يومها ضجّة سياسية كبرى نشر على أثرها خبر في إحدى المجلات يقول، إن غواصة مصرية انتشلتْ عبد الحميد السراج من أحد شواطئ اللبنانية ونقلته إلى مصر وذلك لتغطية عملية التهريب التي قام بها رئيس مجلس النواب صبري حمادة.


وفي عهد شارل الحلو طالب النظام السوري بتسليم اللاجئين السياسيين كأمين الحافظ وأكرم الحوارني وصلاح البيطار. وكانت الذريعة التي تقدّم بها النظام السوري أن هؤلاء السياسيين يمارسون نشاطاً سياسياً لاسقاط النظام في سوريا. وجرى انذاك تجاذب سياسي داخل السلطات اللبنانية حول مشروعية التسليم وكيفية التخلّص من المطلب السوري. وفي هذه الحالة واجه النظام اللبناني مأزقين حرجين بين أن يتجاوب مع الطلب السوري ويتخذ قراراً بترحيل السياسيين السورييين او ينسجم مع مناخ الحرية والتقاليد اللبناني في حماية اللاجئين السياسيين منذ الاستقلال مع بعض الاستثناءات التي اضطرّت السلطات اللبنانية فيها وتحت ضغوط معينة إلى ترحيل بعض السياسيين والكتّاب كأمين الحافظ والسعودي عبدالله القصيمي وسامي الجندي الذي رأى طائفية حزب البعث باكراً بعد استيلاء العسكريين العلويين على قرار الحزب ومساره. وتحدث عنها بوضوح وشفافية في كتابه "البعث".


والمحنة التي تواجه لبنان اليوم بشأن اللجوء أو النزوح، منذ اندلاع الحرب أو الثورة في سوريا، أكثر تعقيداً بكثير من الماضي. لم تعدْ تتعلّق في لجوء النخب السياسة أو بعض الضباط وعيشهم في الفنادق أو المقاهي أو الهورس شو أو الدولتشي فيتا أو مطعم فيصل، لا تتعلق بالبعثي شبلي العيسمي الذي اختُطف واختفى اثره في منطقة عالية، بل في لجوء ملايين من الشعب السوري إلى المناطق اللبنانية، وعيشهم في مخيمات رثة وبائسة وقاتمة وخانقة، وما يسبب ذلك من مشكلات بيئية واجتماعية و"ديغرافية". والمحنة في اللجوء السوري أن حزب الله اللبناني مشارك في الحرب السورية، ومشارك في تهجيرهم واحتلال اراضيهم وبيوتهم ويدعو إلى فتح أبواب البحر أمامهم، وأن الأطراف السياسية في لبنان، بعضها يستفيد من اللجوء بشكل مباشر أو غير مباشر، وبعضها الأخر غالباً ما كانت مواقفه تجاه اللاجئين مرتبطة بالأوهام والرهانات الكبرى وفحيح العنصرية من التيار الوطني الحر إلى القوات اللبنانية والمستقبل وفلول 14 آذار. لم يفعل شيئاً التيار الوطني الحر طوال فترة حكمه لاعادة النازحين إلى ديارهم أو حل قضيتهم مع النظام السوري أو مع حزب الله، وهو يعلم أنّ النظام لن يشرع لهم ابوابه، بل سجونه ومعتقلاته. وحزب "القوات اللبنانية" كان من المتوهمين أو المراهنين أن النظام الاسد سيسقط غدا ويصبح النازحون حلفاء المستقبل، قبل أن يصبحوا "خطرا ديموغرافيا" الآن.

أما المجتمع الدولي(أوروبا وأميركا تحديداً) الذي دعم الفوضى بقوّة في سوريا، وطالماً وصرح قادته عن "الأيام المعدودة" لنظام الأسد وسقوط الأسد. هذا المجتمع نفسه منع سقوط الاسد بحجّة بروز ظاهرة الإرهاب، وترك السوريين في تيه اللجوء والصقيع والحر والموت، يدعمهم بلقمة مغمسة بالذل والهوان، شرط أن لا يفكروا باللجوء إلى أوروبا.