ما الذي يمثّله فن البورتريه؟معرض في بيروت لاربعين فناناً

محمد شرف
الأربعاء   2024/07/17
بول غيراغوسيان (1960)

 

تحت عنوان Eye contact – معرض فن البورتريه (1894- 2024)، تنظّم غاليري Art Scene (الجميزة – بيروت) معرضاً جماعياً يضم أعمالاً لما يزيد عن أربعين فناناً. الموضوع المشترك بين اللوحات كلّها، وكما يشير العنوان، يتمحور حول البورتريه. مقاسات الأعمال المعروضة تتراوح بين الصغير والمتوسط والكبير، كما أنها منّفذة بتقنيات مختلفة، وتعود إلى فنانين لبنانيين وعرب من مختلف الأعمار والإتجاهات الفنية، علماً أن بعضهم كان غادر هذه الدنيا، تاركاً إرثاً ومكانة في تاريخ الفن التشكيلي اللبناني.

يمكننا أن نستخلص مما سبق ذكره أننا أمام بانوراما تستحق الإهتمام، نظراً لما فيها من رصد لتاريخ هذا النوع الفني لفترة زمنية تمتد لـ130 عاماً. في هذا السياق، ومن وجهة نظر شاملة، يمكن ملاحظة العديد من محاولات التحقيق والتجريب عبر تلك الفترة الزمنية، أكانت تلك التي مضى عليها الزمن، أم التي يقوم بها فنانون معاصرون عبر اهتمام متجدد. لقد تم اتهام فن البورتريه، لعقود عدة، بأنه صار قديماً، وليس "على الموضة"، إذ إن تطور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، وقبل كل شيء الشعبية الكبيرة للتصوير الفوتوغرافي، القادر على تخليد الواقع بإخلاص شديد وفي شكل فوري، جعل من البورتريه فناً قديم الطراز إلى حد ما، كما يفترض البعض.

(مصطفى فروخ 1951)
ومع ذلك، فقد أعاد هذا النوع اكتشاف نفسه في شكل مثالي، واستوحى الإلهام من الحركات الفنية الكبرى التي جرت في الماضي، وأدى هذا الأمر إلى ظهور تفسيرات جديدة ومبتكرة. علاوة على ذلك، لا بد أن نتساءل بكل  ببساطة: كيف يمكننا الاستغناء عن سحر فن البورتريه؟ إن أثر اللمسات اللونية على القماش، التي تهدف إلى عكس مشاعر الفنان وهواجسه، يمكنها أن تشرك المراقب بقوة فريدة، وهو الذي يشعر بإحساس قوي بالامتلاء الروحي، يكاد يكون باطنيًا، مما يجعله قريبًا من الشخص المرسوم. لذا، فإن المعرض المقام في غاليري "آرت سين" يبدو وكأنه يلبي هذه الحاجة إلى البورتريه كصورة تدفع إلى التأمل في هذه التجربة الفريدة التي تعود إلى قرون ماضية. إذ أنه، وعبر هذا التقاطع بين النظرات، تبرز مسألة الهوية والقناع، الوجود والظهور، المرئي وغير المرئي، وهي التي تحدد البعد اللامتناهي للوجه.

(ناظم الجعفري 1961)
من الأسئلة التي يطرحها المشاهد، أيضاً، أمام هذا الوجه الذي ينظر إليه: ما الذي يُراد  من خلال هذا النموذج الذي يمثله والشخص الذي رسمه. هذا التساؤل ينطبق على الرسم، كما على الأدب، إذ يتطلب النهج الفني للصورة أن ننسى المؤلف الذي خلقها ونموذجه، فالشخصية الممثلة تعيش حياتها الخاصة في المساحة الصغيرة والثابتة للوحة، أو في الصورة الفوتوغرافية أو في كتاب، ومع ذلك تبدو لنا هذه الحياة، غالبًا، أكثر واقعية وأكثر كثافة من الحياة الحقيقية. ولا شك في أن هذا الحضور، المرمّز في غالب الأحيان، الذي يحيط بالشخصية يمنع الصورة من الوقوع في التسطيح الواقعي.

(نصير شورى)
لقد قلنا، أعلاه، إن ما نراه أمامنا في الصالة لا ينتمي إلى حقبة زمنية واحدة، فالبورتريه الذي رسمه مصطفى فروخ منفّذ في العام 1951، وهو يمثل شخصية لبنانية يعيدنا مظهرها إلى رجالات النصف الأول من القرن الماضي. أما بورتريه ناظم الجعفري، العائد إلى العام 1960، فيمثل شخصية عربية في زي تقليدي تراثي، في حين يرسم بول غيراغوسيان، العام 1960، موديلاً أنثوياً، محمّلاً نظرات شبه تائهة محاطة بحزن غامض. هذه البورتريهات الثلاث، من ضمن أعمال أخرى مشابهة نراها في المعرض، إتخذت من النهج الكلاسيكي الأكاديمي أسلوباً لها. هذا مع العلم أن هذا الإتجاه ما زال حتى اللحظة موضع اهتمام لدى الكثيرين، لما له من مكانة تاريخية وفنية. إن ذلك، يأخذ في الإعتبار ما تعرّض له هذا النوع، على المستوى العالمي، من تبدّلات "تعبيرية" تمت على أيدي إيغون شيل وماكس بيكمان وفرنسيس بيكون ولوسيان فرويد، على سبيل المثال. كما أن هذا الحكم ينطبق على فنانين آخرين كثر، ومن ضمنهم مروان قصاب باشي، الفنان السوري المولد، الذي قضى معظم حياته في ألمانيا، ورحل في العام 2016، تاركاً أثراً ملحوظاً لدى العديد من الرسامين اللبنانيين الشباب. يُضاف إلى ذلك مساهمات العديد من الفنانين الأميركيين المعاصرين، أمثال آندي وارهول، وأليكس كاتز، وتشاك كلوز، الذين جعلوا الوجه الإنساني نقطة محورية في أعمالهم. وفي حين تُعتبر صورة مارلين مونرو لأندي وارهول مثالًا رمزيًا، فقد تخصص كلوز في صور "الرأس"، الضخمة والواقعية للغاية، والمبنية على الصور الفوتوغرافية.

(شارل خوري - محمد الرواس 1973)
سوف نرى في المعرض بورتريه رسمه محمد الرواس في العام 1973، وقد نلحظ فيه مؤثرات التكعيبية، وهو يختلف عما يصنعه الروّاس حاضراً، بأسلوبه المعروف الذي يجمع اتجاهات عدّة ضمن نمط تركيبي يمزج ما بين الواقع والرمزية في صور متوازية. البورتريه العائد إلى شارل خوري الموجود في المعرض ينسجم تماماً مع أسلوب كان سار عليه منذ سنوات: أشكال بعضها هندسي وبعضها الآخر بعيد من الهندسة، تأخذ القليل، وحتى النادر، من ملامح الواقعية، عبر إشارات مبطنة، والكثير من ملامح التجريد، مع تركيز دائم على التناقض بين الألوان المتجاورة. أما بورتريه رياض نعمة فيتمتع بـ"جاذبية" خاصة، إذ يبدو مونوكرومياً وأقرب إلى النمط الغرافيكي من جهة، لكن لون الثوب الأصفر يأتي من جهة أخرى ليمنحه ضوءاً غير متوقع، ويُضاف إلى ذلك تعابير وجه الشخصية النسائية المعبّرة. عمل يوسف يوسف، الذي هو عبارة عن بورتريه يملاء مساحة القماش ويترك بالكاد مكاناً للخلفية، سوف يذكّرنا بأعمال فرناندو بوتيرو، مع الأخذ في الإعتبار المزايا الخاصة لنتاج يوسف، التي تبتعد عن التقليد أو النسخ. أما عمل صلاح حريب فقد استلهم وضعاً لشخصية البورتريه يُعيدنا إلى أنماط الأتوبورتريه الكلاسيكية، التي رأيناها لدى أنطوان فان ديك مروراً بديلاكروا، وصولاً إلى أوتو ديكس. أمّا ما يميّز عمله فهو فم الشخصية المغطّى بمشحة عمودية أزالت معالمه، وقد كُتب على خلفية البورتريه بعض العبارات مثل: لا تتكلّم.

خلاصة، تنبع أهمية المعرض من قدرته في إلقاء الضوء على اتجاهات فنية عديدة تحيط بفن البورتريه خلال حقبة زمنية ليست بقصيرة. لكننا، للأسف، لم نستطع، نظراً لضيق المجال، من الإحاطة في مقاربتنا هذه إلاّ بعدد محدود من الأعمال الكثيرة المعروضة، التي تستحق أن يراها المشاهد بأم العين، وأن يتأملها ملياً، بحثاً عمّا تختزنه من أسرار.