فرنسا.. الثقافة في خطر

بشير البكر
الإثنين   2024/06/24
الانتخابات الفرنسية
لاحظت صحيفة "لوموند" أنه "لم يعد للثقافة أي وزن في النقاش السياسي". وجاء هذا الحكم القاسي في استفتاء شخصيتين ثقافيتين مهمتين. الأول هو إريك روف، مدير "الكوميدي فرانسيز"، وهي مؤسسة مسرحية عمرها أكثر من نصف قرن، ومر عليها ممثلون وكتّاب كبار مثل موليير. والثاني هو تياغو رودريغيز، مدير مهرجان أفينيون، الذي يرعى أهم تظاهرة مسرحية سنوية في العالم. وقد عبّر كل منهما عن استيائه من "التخلي عن قيم الخدمة العامة والثقافة". واختارت الصحيفة المرموقة مناسبة مهمة كي تثير النقاش، وهي الانتخابات التشريعية المبكرة المقررة في 30 من الشهر الحالي. وما كان لها أن تطرح السؤال لو لم تجد أن مكانة الثقافة مهددة.

هناك تقليد راسخ لدى الدولة الفرنسية، يتمثل في الاهتمام بالشأن الثقافي على مستوى الموازنات والانجازات، والحرص على تطوير الدبلوماسية الثقافية، باعتبارها من بين أهم مظاهر تقديم فرنسا لنفسها وصورتها الخارجية، ومن هنا تحتل الفرانكوفونية اهتماماً خاصاً. وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، درج الرؤساء على ربط عهودهم بتوزير شخصيات ثقافية مرموقة كما هو الحال مع الجنرال ديغول، الذي عين الكاتب اندريه مالرو وزيراً للثقافة، والرئيس فرانسوا ميتران الذي وسّع متحف اللوفر، وبنى معهد العالم العربي، والمكتبة الوطنية الجديدة، وعين جاك لانغ وزيراً للثقافة، والرئيس جاك شيراك الذي بنى جناحاً خاصاً في متحف اللوفر مكرساً فقط للفنون الإسلامية، أطلقه العام 2002 بكلفة تجاوزت مئة مليون يورو، رغبة منه في تعزيز "الطابع الأممي" للمتحف الذي يستقبل أكبر عدد من الزوار في العالم. ثم أعلن خلَفه الرئيس نيكولا ساركوزي عزم الحكومة الفرنسية، على إكمال مشروع الجناح الإسلامي، وعند اكتماله افتتحه الرئيس فرانسوا هولاند العام 2012، وهذا القسم الجديد، يعد أحد الأقسام المهمة في المتحف كونه يشمل 12 قرناً من التاريخ، وتضم مجموعة الفن الإسلامي في اللوفر 15 ألف قطعة، ما يشكل اعترافاً بالحضارة الإسلامية وتنوعها، والدور الذي لعبته على صعيد تلاقي الحضارات من شعوب مختلفة.

كان لافتاً جداً أن يقيل الرئيس الحالي ايمانويل ماكرون، وزيرة الثقافة السابقة ريما عبد الملك، لأنها انتقدت قانون الهجرة، ويعين بديلاً عنها رشيدة داتي. كلتاهما عربية. الأولى لبنانية والثانية مغربية. ولذلك يكتسي تعيينهما في هذا المنصب مغزى يذهب إلى الانفتاح على التعددية الثقافية التي تفاخر بها فرنسا، وتعتبرها رأسمالٍ رمزي تتميز به عن بقية البلدان. لكن هناك ما هو خافٍ، في أن تعيين داتي جاء ضمن مساعي ماكرون السياسية لتعزيز فريقه للحكم، ولا يمت بصلة للتعددية الثقافية، لا سيما أنها شخصية سياسية، ولا اهتمامات ثقافية لها، وهذا ما عرّض ماكرون لانتقادات. واعتبرت أوساط ثقافية أن تصرفه، يعكس نظرة ثانوية لدور ومكانة الثقافة.

موسم الانتخابات سياسي بامتياز، طالما أن التنافس على الوصول إلى الحكم، ويكمن الفارق بين حزب وآخر، في رؤية ما هو خارج ذلك، في الشأن العام، أي الثقافة والتعليم والسلم الاجتماعي. ومن هنا فإن أحد أسباب غياب الثقافة من النقاش السياسي، سببه الرئيسي تغليب المصالح السياسية، وعدم تدخل الدولة بما فيه الكفاية، كونها تتحمل مسؤولية التخطيط الثقافي، واطلاق المشاريع، وتنظيم المناسبات، وتخصيص موازنات للانتاج السينمائي والمسرحي والنشر. ومن دون أدنى شك ساهمت وسائل الإعلام والتواصل في ذلك، ولعب التلفزيون دوراً في تسطيح النقاش، وحوّل الثقافة إلى مادة ترفيه، ولم تعد فرنسا ذات دور ريادي، في ما يخص حماية قيم التعايش والتضامن والعدالة والحرية واحترام الآخر، وفشلت سياسة اندماج المهاجرين في بوتقة الجمهورية، كي يصبح الجميع مواطنين فرنسيين يحملون الهوية الفرنسية، وينطبق عليهم القانون الفرنسي. ومهما تعددت الأسباب من وراء ذلك، تبقى المسألة ثقافية، وعدم حلها هو الذي يقود إلى التطرف وصراع الهويات، والدليل على ذلك أحداث الضواحي في العامين 2005 و2023.

حين يجري الحديث عن تراجع حضور الثقافة في فرنسا، لا يعني ذلك تقدم الترفيه والسطحية فقط، وإنما استمرار ضمور المعنى في حياة بلد، بات يعيش اليوم على الإرث الذي تركه الأجداد في الشعر والرواية والمسرح والفن وحتى الإعلان، ومع هذا هناك حدود للانحدار. وأن يعلن روائي مثل ميشيل ويلبيك، إنه لن يصوت في الانتخابات التشريعية لحزب "التجمع الوطني"، وهو المعروف بمواقفه الحادة ضد الهجرة، فهذا يعني أنه يأبى أن يبتذل نفسه، ويشارك في تزكية اليمين المتطرف الذي لا يقيم أي وزن للثقافة، لذلك يرشح حزب "التجمع الوطني" لرئاسة الوزارة المقبلة شاباً يبلغ من العمر 28 عاماً، من دون تجربة سياسية، ولم يكمل حتى تعليمه الجامعي. وهذا يعني أنه يستسهل إدارة دولة ذات حضور دولي مهم، تحمل على كتفيها تاريخاً ثقافياً ثرياً. وهو ما يعيد التذكير بتجارب تاريخية سابقة، حصلت في ثلاثينيات القرن الماضي في بعض دول أوروبا، حينما صفقت الجماهير لقادة شعبويين، وأوصلتهم للحكم، لكنهم انتهوا إلى حرق الكتب وبناء أفران الغاز.

الثقافة في فرنسا هي البوصلة، وحين تصبح في خطر، فهذا يعني أن البلد ليس في وضع صحي، وهو مرشح لأن يفقد ركيزة أساسية من ركائز توازنه، ويخسر أهم ما ميزّه، ورسم صورته الجميلة منذ زمن بعيد.