"مونو بوز" بيتي توتل... ماذا لو أصبحت غيمة؟

ربيع شامي
الإثنين   2024/06/10
من عتمة المسرح تدخل بيتي توتل مع حقيبتها لتضيء الخشبة زاوية زاوية، تتبع إرشادات الصديقة التي أعارتها منزلها الجبلي لقضاء فترة راحة أو اختفاء طوعي. هي المرأة والزوجة والأم والعاملة التي أخذت هذا اليوم قرار العزلة، بعيداً من كل خيباتها، بدءاً من بلد الانهيارات المتتالية، الاقتصاد المتردي والسياسي الفاسد والاجتماعي المتوتر، وصولاًً الى بيتها حيث هي "سوبر وومان" كما يطلقون عليها وهي تخوض امتحاناً يومياً لبطولاتها ومعاركها والتضحيات والحلول، وتزيل المخاوف، وتعطي البديل الآمن أمام زوجها ووالدتها وأولادها وصديقاتها. هي امرأة من هذا البلد تعيش من اجل الآخرين وتكبت وتؤجل أحلامها وطموحاتها.
"مونو بوز". اختارت بيتي توتل عنوان مسرحيتها، في لعبة مفارقة ومحاورة ملتبسة مع عنوان "مينو بوز" أو مرحلة انقطاع الطمث لدى النساء في أواخر أربعينياتهن. قررت الأم والزوجة البطلة في هذه المرحلة، الانسحاب والرحيل والاختفاء، انتصاراً لفرديتها ولحيازة فترة من الراحة والابتعاد عن العمل والمسؤوليات والضغط اليومي، لتتمنى لو "تتبخر وتتحول إلى غيمة" كما تقول في أحد مونولوغاتها الرائعة الغنية بالاستعارة والتشبيه وبصورها الشعرية التي حوّلت الخشبة إلى لوحات مأخوذة من قصص الخيال واستعادة الأحلام المسلوبة.

السهل الممتنع
ساعة ونصف من الإيقاع الممسوك والشريط الصوتي الذي يمسك بالعرض وتقطيعه وتواتره، بدءاً من الرسائل الصوتية في بداية الإقامة، الى إقفال الخليوي ورميه في المرحاض، الى الفونوغراف القديم الذي يطلق أغنيات فرنسية تمجّد الحياة والإنسان، إلى صوت أم كلثوم تغني "إنت عمري" الى موسيقى واحدة ملازمة للتساؤلات والقلق والحيرة.

توتل المتمرسة مسرحياً وأكاديمياً، وصاحبة الأعمال المسرحية التي تعالج قضايا المرأة والعائلة والهجرة مثل "باسبور 10452" و"الأربعا بنص الجمعة" و"آخر بيت بالجميزة"... تلعب في عملها الجديد -وكعادتها- في منطقة السهل الممتنع. تتخبّط بقراراتها الغاضبة والحزينة والحنونة والضعيفة، تتقلب بهبّاتها الساخنة التي تغزوها بين الفينة والأخرى فتصرخ: "مي، مي، صرت مي، فيضانات مي". موجعة صرخة توتل وفي أدائها تكاد تختصر موضوعات شائكة تحيط بنساء مجتمعاتنا، وذلك كله بحوار محبوك وحركة جسد منضبط ومقروء بدلالاته الدرامية ووحشته التي سيقطع تواترها حضور شخص وُجد صدفة أمام باب المنزل، ليقدم لها عن طريق الخطأ أطباقه اليومية التي جلبها بنفسه.

هو "أبو خالد" صاحب مطعم، يعيش في بلدة الاصطياف بتوقيتها الشتوي الممل، وحيداً بعدما تركته زوجته وسافر ولده الوحيد الى الخارج، ويعيش أبو خالد من زاويته حياة الوحدة وأسئلة التقدم في العمر. الدكتور جاك مخباط، الذي بدأ تجاربه المسرحية باللغة الفرنسية، وشارك بيتي توتل في أعمال مسرحية عديدة، يقدّم إضافة غنية بحضوره وعفوية إحساسه وتلقائيته، يضيف بُعداً آخر لمسرحية "مونو بوز" وينجح منذ حضوره صدفة وعن طريق الخطأ في كسر عزلة بيتي توتل، ليقارع أسئلتها بحنان أبوي والفراغ الذي سبّبه سفر وحيده. فتتوطد صداقة أضداد بين رجل وامرأة، ولعل مشهد سماعة الهاتف المتدلية من سقف المسرح (إضاءة: هاكوب ديرغوكسيان) هو أحد المشاهد الآسرة التي ستحفظها ذاكرة المتفرج عن عمل أشبه بمونولوغ داخلي فيه الكثير من السخرية والضحك والحزن والعتب على مجتمعات أغفلت او تتناسى نساءها.  

(*) عرضت في مسرح "دوار الشمس" قبل أن تنتقل الى مسارح أخرى.