عن السرديّة السياسيّة والدفاع عن الشعر

أسعد قطّان
الأحد   2024/10/13
الدمار في الضاحية الجنوبية من جراء الغارات الاسرائيلية (علي علوش)
بعد انقضاء سنة على عمليّة "طوفان الأقصى"، يقبع يحيى السنوار في جحره ويبكي. بعضهم يقول إنّه لا يتواصل مع العالم الخارجيّ إلّا بواسطة الورقة والقلم. لقد خسر معركته مع إسرائيل، ومع بيبي نتانياهو بالذات، لا لأنّه لا يستطيع أن يستجمع رجاله ويشحذ عزيمتهم، ولا لأنّه عاجز عن أن يخوض حرب استنزاف ضدّ الدولة الغاصبة، بل لكون السرديّة التي بنى عليها حساباته تفكّكت وتداعت. فعدوّه ليس مهتمّاً بالأسرى ويفضّل موتهم على خوض مفاوضات لتحريرهم. وعليه، فقد انتزع نتانياهو من السنوار ورقته الأقوى التي كان الأخير يعوّل عليها لتبييض السجون الإسرائيليّة. يضاف إلى ذلك أنّ الرهان على عدوّ لا يخوض حرباً طويلة بسبب الدورة الاقتصاديّة، ويتراجع أمام خسائر جيشه في العديد، سقط أيضاً. والأنكى من ذلك كلّه أنّ رئيس حركة "حماس"، الذي لزّم القضيّة الفلسطينيّة للإسلام السياسيّ، خسر رهانه على إيران وحزب الله، وربّما حتّى على فلسطينيّي الضفّة الغربيّة والداخل. لقد خذلته إيران حين قالت له، كما تناهى، إنّ من يبدأ الحرب وحيداً يخوضها وحيداً. وحين أوعزت إلى حزب الله بإطلاق معركة "المشاغلة والإسناد"، كانت أكثر اهتماماً بمصالحها القائمة على شدّ إزر المحور سيكولوجيّاً، من اهتمامها بالحؤول دون هزيمة السنوار وغزّة.

ثمّة سيناريو مشابه يتكرّر اليوم في لبنان، إذ إنّنا نعيش في زمن تضعضع السرديّات وتلاشيها. ما لا يرقى إليه الشكّ أنّ حزب الله يستطيع أن يكبّد إسرائيل خسائر فادحة، وأن يتصدّى لفرق جيشها حين تحاول هذه احتلال الأرض. وما من شكّ في أنّه، مثل السنوار، قادر على أن يخوض ضدّها حرب استنزاف طويلة. لكنّ الأكيد بالمقابل أنّ السرديّة التي بنى عليها الحزب مشروعيّته طوال عقود، بأنّ مقاومته في مقدورها أن تحمي لبنان بفضل ما كان يسمّى "توازن الردع" آخذة في التآكل والانهيار. وهذا ينسحب أيضاً على سرديّة أخرى لطالما ردّدناها في الماضي وتغنّينا بها، وهي سرديّة المنظومة العسكريّة والأمنيّة المتراصّة، العصيّة على التنصّت والاختراق والرشوة والفساد والخيانة.

إذا كان هذا الزمن الرديء هو زمن تداعي السرديّات واضمحلالها، من المفيد طرح السؤال عن ماهيّة السرديّة. بعكس ما يذهب إليه بعضهم اليوم أنّ السرديّة إن هي إلّا خطاب "شعريّ" لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة، السرديّة لا تشبه الشعر في شيء. فالشعر، بما يختزنه من طاقة الجمال، هو، بالحدّ الأدنى، تجميل لهذا العالم الذي نعيش فيه؛ وبالحدّ الأوسط، فتح لكوّات جديدة في معنى الوجود الإنسانيّ لم نكن لنكتنه سرّها من دونه؛ وبالحدّ الأقصى رسم بالكلمات لمعالم عالم جديد نلجأ إليه ونعبّ منه، كي نكتسب حسّاً آخر حين نعود إلى العالم الوضعيّ. هذا كلّه لا علاقة له بالسرديّة السياسيّة، بالرغم من أنّ بعضهم يجنح اليوم إلى وسم هذه السرديّة بالشعر وكأنّ الشعر، الذي يتمتّع بمكانة مفصليّة في ثقافتنا، تحوّل إلى شتيمة وصار مكسر عصا.

ما هي السرديّة السياسيّة، إذاً، إن لم تكن شعراً "رديئاً"؟ هي، بكلّ بساطة، تأويل ينطلق من الواقع، لكنّه يسبغ عليها معنًى لا يمكن استمداده من الوقائع ذاتها، وكثيراً ما يتصاحب مع سعي إلى تغيير بعض جوانب هذا الواقع. ليس في هذا شي جديد. فالإنسان كائن يعيش في التأويل ومن التأويل كما ذهب إليه الفيلسوف مارتن هايدغر في كتابه المرجعيّ "الكينونة والزمن". ولكن إذا كان الواقع خاضعاً للتأويل ويحتاج بالضرورة إلى تأويل، فإنّ جزءاً لا يتجزّأ من هذه العمليّة هو إعادة النظر في التأويل حين تصبح الوقائع مخالفةً للسرديّة.
وهذا مربط الفرس. فحين تكذّب الوقائعُ السرديّةَ بفعل ما تتمخّض عنه حركة التاريخ، لا مناص من مراجعة السرديّة ونقدها وتفكيكها وصولاً إلى الاستغناء عنها واستبدالها بسرديّة أخرى أكثر قدرةً على قراءة معطيات الواقع وصبّها في بوتقة تأويليّة أكثر تماسكاً. فإذا أحجمنا عن القيام بعمليّة المراجعة هذه، تحوّلت السرديّة إلى منظومة إيديولوجيّة تدّعي لذاتها القدرة على تفسير معطيات الواقع تفسيراً مطلقاً. لكنّ مشكلة الإيديولوجيا تكمن في أنّها لا تجيز المساءلة لكونها تتوكّأ على مرتكزات مطلقة. والمطلق لا يسوغ اعتباره مطلقاً ما لم يخضع أوًلاً للإعمال العقليّ والنقد المنهجيّ. ولا تشذّ عن هذه القاعدة لا العمارات الدينيّة ولا الهيكليّات السياسيّة ولا المسلّمات الأخلاقيّة.

شتّان، إذاً، بين الشعر والسرديّة السياسيّة، ولا يجوز الخلط بينهما. فالشعر نشاط جماليّ وفكريّ يجعل اتّصالنا بالعالم أكثر رفعةً ورقيّاً ولا يندرج في باب الحكم القيميّ. أمّا السرديّة السياسيّة، فتأويل مشروع للواقع، شرط أن يبقى تحت سقف النقد والمساءلة لئلّا يتحوّل إلى إيديولوجيا عقيمة وجامدة. لا ريب في أنّ زمن اهتزاز السرديّات الراهنة يختزن في ذاته فرصةً على قدر ما يعزّز الطاقة على المراجعة والتوثّب والتجدّد. لكنّه يقتضي أيضاً الدفاع عن الشعر لئلّا نقع في فخّ جلد الذات وجلد الثقافة.