سهيل إدريس: المُعجميّ المَنسيّ

نجم الدين خلف الله
الأربعاء   2023/08/23
لإنجاز هذا "المَعْلَم"، اعتمد إدريس على مدوّنة ثريّة من المعاجم العامّة
طغت شهرةُ سُهيل إدريس (1925-2008)، الذي نحتفل اليوم بذكرى وفاته، كاتبًا روائيًّا ومُترجِمًا حداثيًّا، على ما سِواها من مظاهر حيويّته الفكريّة. ولعلّ أبعدَ هذه الأنشطة عن الإبداع الفنّيّ بما هو تلاعبٌ بالكلمات وتصرُّف في آلة السّرد إيهامًا وتخييلا، البحث المعجميّ المعمّق والذي كُلّل بتحرير "المنهل" (1970) أحد أسْير المعاجم المُزدَوجة (فرنسيّ-عربيّ) وأكثرها تداولاً بين طلبة العلم المشتغلين بنَقل المعارف بين الفضاءيْن: الفرانكفونيّ والعَربيّ. فكيف لحساسيّة أدبيّة مأسورةٍ بأفانين الحِكاية أن "تتورّط" في صناعة المعاجم والإبحار طيَّ المعاني المتغايرة التي لا تني عن السّفر بين الضِفاف المتقابِلة؟

كان مُنطلق هذا العمل إحساسٌ عميق لدى الكاتب بضرورة إيجاد "أداة تثقيف وانفتاحٍ على الحضارة الحديثة في شتّى مَناحيها ومَرافِقها ومُتطلّباتها". ولعلّه أحسّ بالحرج من مُراكمة قاموس جديد ينضاف إلى جملة القواميس المتاحة آنذاك، وهي عديدة. إلا أنّه استمدّ شرعيّة مثل هذا الجهد في التحديث باعِثًا وأفقًا، فأدرج "المنهل"، كما يدلّ اسمُه، ضمن مشروع أشمل: توفير موارد للحداثة تُسهم في تغيير العقليّات وتثوير المشهد الثقافيّ.

ولإنجاز هذا "المَعْلَم"، اعتمد إدريس على مدوّنة ثريّة من المعاجم العامّة والمُتخصّصة التي سادت منذ نهاية القرن التاسع عشر، مستفيدًا من الاصطلاحات والاختيارات التي رسّخها الاستعمال وشاعت بين النّاس. لكنّه ربّما عَدَل عن بعضها واقترح مُفردات أقربَ إلى البساطة نُطقًا وفهمًا وصياغةً ضمن مساعيه لتجديد الضّاد وجعلها تواكب بكفاءة أكبر ما طَرَأ من سريع التحوّلات.

وقد آثر إدريس ألاّ ينطلقَ من المعاجم الفرنسيّة النّاجِزة وألاّ يكتفي بما تضمّنته من المداخل، وهو ما قد يفرض عليه عددًا من المفاهيم التي لا تحتاجها الضاد أو لا تتلاءم مع خلفيّاتها الثقافيّة والمفهوميّة. ولذلك اجتهد، طيلة سنين، في تجميع المداخل الفرنسيّة وترتيبها مع إعطاء الأولويّة لتلك التي تُفضي ترجمتُها إلى توسيع الآفاق الدلاليّة للضّاد وتحديث نظرة العربيّ لذاته وللعالَم. فكانت المَداخل تتوالى حسب التّرتيب الألفبائي الفرنسي، وأمام كلّ مفردة ما يقابلها من العبارات العربيّة البَسيطة والمركّبة، مع تفضيل المقابلات الدقيقة التي لا تتضمن أيّ التباسٍ.

ولئن اعتمد ادريس على كثيرٍ من القواميس وحيدة اللغة ومُزدَوجتها ولا سيما المكتوبة في نهاية القرن التاسع عشر، فإنّنا نُرجّح أنه تنكّب عن اختياراتها بحُكم ارتباطها بالعربيّة الكلاسيكيّة، في حين كان اهتمامه منصبًّا على المفردات الحديثة وألفاظ الحضارة التي ملأت وعيَ العرب ومجتمعاتِهم طوال النّصف الثاني من القرن العشرين. كما اطّلَع إدريس على أعمال "المجامع اللغويّة" في مصر وسوريا وعلى مقترحات أعضائها العلماء ونقاشاتِهم المختصّة والعامّة مثبتًا ما توصّلوا إليه من النتائج في التوليد حتى تكون المقابلات العربيّة وليدة عملٍ مُشترك، ناتجة عن تأمّل جماعيّ وجامعيّ.

كما أغنى صاحبُ "الحيّ اللاتينيّ" مباحِثَه التوليديّة بعشرات من الترجمات الأدبيّة والفلسفيّة لنصوصٍ مختارة من الأدب الفرنسيّ، وهو ما دعم الرّصيدَ المُزدَوج الذي بحوزته ومكّنه من الاطّلاع على عشرات السّياقات التركيبيّة المخصوصة. وهكذا، مَتَحَ عملُه المعجميّ من التّرجمة في ذات الآن الذي جَوَّد فيه هذا العملُ ترجماتِهِ بما أتاحه من حِسّ لغويّ مرهَفٍ واقتدار على ضبط المعاني وتقييدها.

وإلى ذلك، قارب الرّجل مفرداتِ اللغة في ظلّ وَلَعٍ بالأدب وشَغَفٍ بجماليّة كلّ وَحدة منها وما انتقش في ذاكرتها من المعاني الأوَّل والثَّواني بفضل ترحالها في نصوص الإبداع العربيّ الحديث مسرحًا وروايةً، والتي كان إدريس أحد المُعانين لسِحرها والمُعايِنين لتموّجاتها خلال العقود الماضية. ولعلّ تأسيس "دار الآداب للنشر والترجمة" (1952) مما ساعده أيضًا في هذه الجهود بفضل الحركيّة الإبداعيّة التي رَعَتها ووجَّهَتها، وكلها منصبّة على مفردات اللغة وكَلِمها وطاقاتها الإيحائيّة، طبعًا دون إهمال مراجع الضّاد الحديثة المستخدمَة في سجلاّت الإدارة ومعاملات الاقتصاد والقانون وغيرها من الحقول الاصطلاحيّة الجافّة.

وقد كانت المعضلة الكبرى التي تصدّى لها الرّجل هي ابتكار مُفرداتٍ مستحدثة تتّسم بالبساطة والوُضوح، يتيسّر استخدامها فعليًّا في حياة الناس اليوميّة، مع مراعاة قواعد الاشتقاق وأساليب العَرب في التسمية والإشارة، وهو ما يعني أنَّ الهمَّ المعرفيَّ هو تطويع الضاد على الإحالة لما طرأ في عالم الناس من المفاهيم والأشياء الحديثة، حتى يقطعها عن "سذاجة البداوة" التي التصقت بها طيلة القرون الخوالي، لأن الغاية التي رمى إليها "المنهل" هي إمداد الضّاد بأداة اللحاق بركب الحداثة في تسمية أشياء عالَمنا الحديث، شريطة أن تكون هذه الأسماء لا مجرّدَ اصطلاحات نخبويّة، تَظهر لتختفي سريعًا في بطون المقالات الأكاديميّة، وإنما علامات تدور في مخاطبات النّاس وتسير خلال محاوراتهم.

وحتى ندرك عمق الجهود التي بذلها إدريس في مجال التوليد المعجمي وتدقيق المقابلات، يكفي أن نقارن بين "مَنهله" وبين قاموس المترجم المِصريّ إلياس بقطر (1784-1821) أوّل معجم فرنسي-عربيّ على الإطلاق. فسنلاحظ مباشرة مدى تطوّر آليات التوليد وتنوّعها بعد التخلي عن المقابلات المنحدرة من اللهجات الشرقيّة وعن السجّل الدينيّ وعن المفردات اللاتينيّة المُعرّبَة صوتيًّا، (مثل تياترو)، حيث كَمُنت إضافة إدريس في تحديث المقابلات العربيّة وتدقيقها بعد ضبط الكثير من معانيها، فضلاً عن توليد عددٍ وفيرٍ من المستحدثات التي تحيل على ما استجدّ في طبقات الكَلِمِ من المَعَانِم (sèmes) والفويرقات الدلاليّة.

ينتمي سهيل إدريس إلى جيل خمسينات القرن المُنصَرم الذي كان يؤمن بأهميّة اللغات الأجنبيّة ولاسيّما الفرنسيّة في تطعيم الضاد وإغنائها بما لم تَشهده سابقًا من مفاهيم ومُصطلحات. كان هذا الإيمان حافزًا على توسيع فضاء العربيّة بما في مدارات الفرنسيّة من مدلولات، دون التشكيك في قدرة الضّاد على استيعاب هذه المعاني ودمجها في منظومتها. فلم يُفض مشروعه إلى إخضاعها للغة موليير، بل على العكس آثر إدريس، في أغلب الحالات، الاستناد إلى موارد العربيّة وتطويع الفرنسيّة لها عبر ابتكار مقابلات أصيلة تتطابق مع القواعد الاشتقاقيّة للُغتنا وصيغها وأوزانها، كاسم المكان والزّمان والآلة والمَصادر الصناعيّة...

وكما يوحي به اسمُه الشّاعريّ، "المنهل" مَعينٌ يَكرَعُ منه إلى اليوم طلاّب العلم ممّن رامَ إتقان اللغتيْن والنَّهَل من جداولهما التي طالما تداخلت سواقيها فتحاورت بينها المدلولات ضمن تفاعل المعاني وامتزاجها. فكم من فكرة نشأت في صحراء العرب وهي اليوم في الصّميم من الحداثة، كمفردات "عقل" و"تغريد" و"شركة"؟ وكم من مبدأ اكتهل في ساحات باريس، فإذا به يحرّك عواصم العرب ويعيش في وعيها العميق، كمبادئ الثورة والحرّية؟ وهذا ما نجح إدريس في ضَمّه طيَّ مدوّنَة واحدة، "المنهل" الذي لا يزال شاهدًا على ضرورة عناق لغات المُتوسّط، بعضِها لِبَعضٍ.