غزة اليوم التالي: حلول صعبة وسط سيناريوهات مظلمة

رأي قاسم مرواني
السبت   2024/08/03
غزيون يعاينون الركام في غزة عبد غارات إسرائيلية (Getty)
العقبة اليوم أمام وقف إطلاق النار في غزة تتمثل في اليوم التالي للحرب. حتى اللحظة، لا طرح جدياً حول الجهة التي ستحكم القطاع بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي منه. ومع غياب أي رؤية لغزة ما بعد الحرب، تستمر العمليات العسكرية الإسرائيلية محولة القطاع إلى مكان غير قابل للحياة. أما السيناريوهات المطروحة على الطاولة لمستقبل غزة، فإنها لا تبشر بأي خير للسكان.

سيناريوهات متعددة
يتمثل السيناريو الأول في احتلال إسرائيل لقطاع غزة، والسيطرة عليه بشكل كامل ما سيرتب عليها تكاليف باهظة. فسيكون عليها تخصيص عشرات آلاف الجنود ورجال الشرطة لضبط المدن المكتظة بالسكان. وهو أمر صعب التحقيق بالنسبة لدولة تعتمد على جنود الاحتياط وتعاني تهديدات عديدة. كما أن إعادة السيطرة الأمنية على القطاع، ستفرض على إسرائيل الاهتمام بالشؤون الأمنية والحياتية وتأمين مستلزمات سكانه. أي ستكون مسؤولة أمام المجتمع الدولي عن الغزيين. من جهة أخرى، ستظل "حماس" موجودة بين السكان لتقوم بعمليات خطف وقتل لجنود إسرائيليين. وهو ما سيزيد من كلفة احتلال القطاع.

ترفض إسرائيل عودة حركة "حماس" إلى الحكم. لكن وحتى لو انسحب الجيش الإسرائيلي من القطاع وترك لحماس إعادة تنظيم نفسها وحكمه من جديد، فإنه سيعود إلى سياساته السابقة باغتيال قادتها والإغارة على مراكزها بين الحين والآخر، والاستمرار بسياسات التضييق المالي والحصار الاقتصادي للقطاع، ومنع دخول العديد من المواد الأولية إليه، وسيمنع الغزيين من العمل في الأراضي المحتلة. أمور ستحول حياة سكان القطاع إلى جحيم.

عشائر غزة وقوات عربية
في آذار/مارس، حاولت إسرائيل من خلال أطراف ومؤسسات دولية إيجاد بديل للحكومة التي تقودها "حماس" في قطاع غزة، عبر إنشاء هيئات مدنية من العشائر، لكن هذه المحاولات واجهت رفضاً كبيراً من العائلات الفلسطينية. ووفق مسؤولين فلسطينيين وحقوقيين ومصادر محلية، فإن أطرافاً دولية اجتمعت مؤخراً، بتوجيه إسرائيلي مع عائلات فلسطينية بمدينة غزة، لتولي أدواراً في إدارة القطاع. وجاء في بيان صادر عن تجمع القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية في غزة أن القبائل ليست "بديلاً عن أي نظام سياسي فلسطيني"، بل هي مكوّن من المكونات الوطنية و"داعم للمقاومة ولحماية الجبهة الداخلية" في مواجهة إسرائيل. كما أن موافقة هذه الجهات على حكم غزة ستعرضها للاصطدام بحركة "حماس" التي قال مصدر أمني فيها إن "قبول التواصل مع الاحتلال من مخاتير وعشائر للعمل بقطاع غزة خيانة وطنية لن نسمح بها". وفي تموز/يوليو، اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالتحديات، قائلاً في مقابلة مع القناة 14 التلفزيونية الإسرائيلية إن وزارة الدفاع حاولت بالفعل التواصل مع العشائر لكن "حماس" قضت على المحاولات.

كذلك، طُرحت فكرة مشاركة قوات عربية بصيغ مختلفة في وقت مبكر من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في إطار التفكير بمستقبل القطاع في اليوم التالي للحرب، على أساس أن الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة وحلفاءهم الغربيين حسموا موقفهم بمنع عودة "حماس" لإدارة القطاع تحت أي شكل. وربطت الدول العربية هذا السيناريو، في بيان القمة العربية في المنامة المنعقد في أيار/مايو 2024، بإنفاذ حل الدولتين. فربط وجود القوات الدولية بترتيبات إنهاء الاحتلال، وليس بإنفاذ شروط الاحتلال.

أي جهة ستحكم قطاع غزة، سواء مدنية قوامها رؤساء العشائر، أو حكومة تكنوقراط لا تنتمي إلى "حماس" ولا "فتح"، أو حتى جهة دولية قوامها قوات عربية وأجنبية تسيطر على القطاع، ستواجه العديد من العقبات. فقد يؤدي فرض هكذا نوع من الحكومات على أهالي قطاع غزة إلى الاصطدام معهم، ما ينذر بنشوب حرب أهلية. في الوقت عينه، سيستمر الجيش الإسرائيلي بالقيام بعمليات محدودة لقمع أي محاولة من "حماس" لإعادة بناء نفسها، وهو ما يضع هذه الحكومات في موقف محرج، وستكون متهمة بالتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي والتواطؤ معه ضد المقاومة. وحتى لو استطاعت هذه الحكومات العمل في غزة، فإن حركة "حماس"، القوية شعبياً وعسكرياً، ستكون هي المسيطر الفعلي على القطاع وحكومة الظل، الأمر الذي لن يكون مقبولاً لإسرائيل بالطبع، والتي ستسعى لإحباطه عبر عمليات عسكرية تقتل خلالها قادة "حماس" ومسؤوليها. كما لن يغير واقع سيطرة "حماس" على غزة خلف حكومة مدنية، من أن إسرائيل ستستمر في حصارها للقطاع ومنع دخول المساعدات إليه والمواد الأساسية، بحجة عدم وقوعها في يد "حماس".

السلطة الفلسطينية
في حزيران/يونيو، طالبت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، والسفير الأميركي لدى إسرائيل، جاكوب ليو، خلال مؤتمر في مدينة هرتسليا الإسرائيلية، بأن يكون للسلطة الفلسطينية، بعد إصلاحها، دور رئيسي في حُكم غزة، بعد انتهاء الحرب في القطاع.

يعد هذا السيناريو هو الأقرب إلى الواقع، إلا أن إسرائيل ترفضه بشدة والسبب الرئيسي هو رفض قيام دولة فلسطينية يمهد لها الطريق توحيد قطاع غزة والضفة الغريبة تحت حكم السلطة. وقد جدد السفير الأميركي في مؤتمر هرتسليا، التأكيد على أن الولايات المتّحدة تؤيد "حلّ الدولتين"، أي قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل. إلى جانب ذلك، تعاني السلطة الفلسطينية، الفساد المستشري فيها، حيث يطالب معظم الفلسطينيين في الضفة الغربية باستقالة رئيسها محمود عباس، كما تعاني السلطة تدنّي شعبيتها في قطاع غزة خصوصاً، وهي متهمة بالتواطؤ مع إسرائيل والتنسيق الأمني معها للقبض على المقاومين، ووفقاً لاستطلاع نشره المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في 12 حزيران/يونيو، فإن الدعم للسلطة الفلسطينية ضعيف بين سكان غزة... كل ذلك سيؤدي لا شك إلى اصطدام السلطة مع أهالي القطاع أولاً، واتهامها بالحكم بالتواطؤ مع إسرائيل، وفي هذه الحال لن تكون الحرب الأهلية بعيدة أيضاً.

لا شيء من السيناريوهات السابقة قابلاً للتحقق. فما تتجه غزة نحوه الآن هو الغياب التام للإدارة، حيث على الأفراد أن يديروا شؤونهم بأنفسهم. سترتفع معدلات الجريمة ويزيد الفقر. ستتولى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية إدخال مساعدات إنسانية يسيطر عليها الأقوى. سيناريو قد يفضله كثير من الإسرائيليين على اعتبار أن أي إدارة مقبلة للقطاع لن تكون أفضل من "حماس". وحتى لو تحقق أي من السيناريوهات السابقة، فإن وضع قطاع غزة لن يكون أفضل، وهو ما يجب الحؤول دونه.

ما الحل؟
لا شك في أن المشكلة الرئيسية تكمن في غياب أي مبادرة عربية أو فلسطينية لوضع تصور لليوم التالي للحرب. سحب زمام المبادرة وتقرير المصير من بين أيدي إسرائيل قد يشكل الخطوة الأولى باتجاه الحل، وقد يكون السيناريو الأفضل هو أن تتولى السلطة الفلسطينية حكم قطاع غزة. لكن ليس السلطة بشكلها الحالي، إنما بعد القيام بإعادة الهيكلة وإجراء انتخابات يتم خلالها اختيار خليفة للرئيس محمود عباس. وهي مطالب مطروحة منذ بدايات العدوان الإسرائيلي على غزة، من قبل دول عربية وغربية وكشرط لدعم السلطة. 

بالتوازي مع إعادة هيكلة السلطة، تستطيع الدول العربية المؤثرة مثل قطر ومصر والسعودية، بالإضافة للدول الغربية وأولها الولايات المتحدة، الضغط على إسرائيل للموافقة على أن تتولى السلطة إدارة القطاع. وضع غزة والضفة تحت إدارة واحدة، سيشكل خطوة إيجابية باتجاه تحقيق حل الدولتين. ولا يمكن لهذا السيناريو أن ينجح من دون موافقة حركة "حماس". تدرك الحركة جيداً أن القضية باقية والمعركة كر وفر، وأنه ليس من الخطأ العودة خطوة إلى الخلف إذا كان في ذلك مصلحة للشعب الفلسطيني وأهالي غزة. وقد تجد الحركة أنه ربما من الأفضل اليوم الابتعاد عن المشهد قليلاً وأن تعيد تموضعها في الخريطة السياسية الفلسطينية، وربما إعادة ربط علاقاتها بالدول العربية وتحقيق مصالحة حقيقية مع حركة "فتح". إذ أن إخراج القضية الفلسطينية من الصراع الجيوسياسي الإيراني العربي وإنهاء الإنقسام الفلسطيني بات أمراً مُلحّاً.