فصل ثانٍ من الحرب الإسرائيلية على غزة
دشّنت إسرائيل هذا الأسبوع عملياً الفصل الثاني من الحرب ضد قطاع غزة، مع إحكام الحصار على الشمال لدفع سكانه على النزوح جنوباً. تستبطن الخطوة الإسرائيلية إمعاناً وإصراراً على المضي قدماً في الخيار العسكري، وهروباً من الأصل السياسي لقضية الصراع في غزة وفلسطين والمنطقة بشكل عام، بينما لا تبدو الطبقة السياسية الفلسطينية على مستوى الحدث مع تخبطها في الانقسام والتباعد، حتى مع التضحيات الهائلة للناس في غزة والضفة، على حد سواء.
إذن، دشّنت إسرائيل هذا الأسبوع، ما كان قد وصفه رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" ألوف بن قبل أسبوعين، بالفصل الثاني من الحرب ضد غزة المتمثل بعزل الشمال تماماً عن بقية القطاع، في الوسط والجنوب، وإجبار أهله على النزوح جنوباً تمهيداً لتنفيذ ما تعرف بـ"خطة الجنرالات". وفي السياق التمهيد لضم تدريجي لغزة، أو فرض السيطرة العسكرية عليها، وربما حتى عودة الاستيطان فيها، حال جاءت الظروف الإقليمية والدولية متلائمة مع الوقائع التي يريد الاحتلال فرضها.
قبل التمعن في الفصل الثاني، لا بدّ من التذكير بالمراحل الثلاث للفصل الأول، التي تضمنت أولاً غارات جوية غبية لثلاثة أسابيع، سعت فيها إسرائيل إلى إيقاع الضرر لا تحرّي الدقة في المواقع المستهدفة، ثم العملية البرىة التي أسمتها مناورة وتنقلت ما بين الشمال أولاً، باعتباره عاصمة حماس السلطوية والإدارية لمدة شهر تقريباً، وبعد الهدنة الأولى نهاية تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، امتدت العملية جنوباً، بداية كانون الأول/ديسمبر، نحو خان يونس بصفتها عاصمة حماس العسكرية، ثم رفح في أقصى الجنوب في أوائل أيار /مايو، والنجاح باحتلال معبرها ومنفذها الوحيد على الخارج، ومحور فيلادلفيا الحدودي مع مصر. وبنظرة إلى الوراء، بدا المشهد كله تكريساً لحصار القطاع وفرض السيطرة الكاملة عليه وعزله تماماً عن العالم.
بالعودة إلى الفصل الثاني من الحرب، الذي يعزل الشمال -ثلث مساحة القطاع ونصف عدد السكان، بينما تبقى فيه 200 إلى 300 ألف- ثم فصله على الطريقة الإسرائيلية إلى شمالين، جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، وعزلهم عن مدينة غزة بسواتر ترابية، حيث تبدو هذه الأخيرة وكأنها محاصرة بين تلك السواتر شمالاً، وممر "نتساريم" جنوباً، فيما يتم رفض إدخال الغذاء والدواء والوقود ومنع المستشفيات والمراكز الصحية من القيام بعملها، لإجبار السكان على النزوح القسري عبر منفذ وحيد تركه جيش الاحتلال باتجاه "المنطقة الآمنة" في الوسط، وخان يونس، التي باتت تضم مليوني نسمة على نصف مساحة القطاع تقريباً، مع الانتباه إلى إن مدينة رفح باتت خالية من السكان تقريباً إثر إجبار أهلها على النزوح القسري أيضاً، ومنعهم من العودة إليها حتى مع إعادة انتشار جيش الاحتلال حولها.
تزامن الفصل الثاني من الحرب، وتوسيع العملية مع إعلان الاحتلال الجمعة الماضية، عن قطاع غزة كساحة قتال ثانوية تماماً، كما الضفة الغربية، والتوجه شمالاً نحو لبنان، وربما إيران أيضاً، في إعادة للمشهد السابق بعدما جرى التدرج في الانتقال شمالاً من غزة إلى الضفة الغربية، قبل التوجه نحو لبنان.
بناءً على المعطيات السابقة، ثمة أهداف عديدة للفصل الثاني من الحرب الإسرائيلية ضد غزة. أولها، والمباشر والظاهر، ربما توسيع المنطقة العازلة في المنطقة التي انطلقت منها عملية طوفان الأقصى، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 20333، ومنع أي تهديد جدي لإسرائيل كونها الأقرب للمدن والتجمعات الإسرائيلية الكبرى، عسقلان وأسدود وتل أبيب، وفي السياق تشجيع مستوطني غلاف غزة على العودة إلى مستوطناتهم.
في الأهداف، يمكن الحديث أيضاً عن السيطرة التامة على المنطقة، وفرض الحكم العسكري عليها، للمساومة وإجبار حماس على القبول بشروط تل أبيب لإنهاء الحرب، مع الإطاحة بوثيقة الرئيس الأميركي جو بايدن بمراحلها الثلاث عن الطاولة. في المقابل، يعبّر المشهد برمته عن تجاهل ملف الأسرى الإسرائيليين لدى لحماس، وتقليص فرص التوصل إلى اتفاق وهدنة وصفقة تبادل أسرى، أقله في المدى المنظور، علماً أنها لم تعد عملياً على جدول الأعمال.
وفي الجوهر، يمثل أصلاً إعلان غزة جبهة قتال ثانوية والانتقال إلى لبنان، تجاهل للأسرى وحتى تضحية بهم، كما تقول عوائلهم وقراءات عديدة في وسائل الإعلام العبرية.
في الأهداف أيضاً لا يجب استبعاد التفكير في تمهيد الأرض أمام عودة تدريجية للاستيطان إلى غزة نفسها، ولو بشكل تدريجي، لامتصاص غضب ونقمة ورفض المجتمع الدولي القاطع.
وبالعموم، يمثل الفصل الثاني من الحرب خطوة جدية لتنفيذ "خطة الجنرالات" الساعية للقضاء على المقاومة بشكل تام في الشمال، مع إعلانه خالياً من المدنيين، ثم الانتقال إلى الجنوب، والنظر فيما بعد ذلك بسيناريو اليوم التالي المفتوح على كل الاحتمالات. وقبل ذلك وبعده، العمل على إطالة الحرب إلى أبعد مدى زمني ممكن والوصول إلى إجراء انتخابات البرلمان (الكنيست)، في موعدها المقرر نهاية العام 2026، خاصة بعد توسع الحكومة الحالية وانضمام الليكودي السابق جدعون ساعر إليها مع أربعة نواب، علماً أنه يتماهى فكرياً وسياسياً تماماً مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
أما لجهة توقيت فتح الفصل الثاني، فلا شك أن إسرائيل تبدو مرتاحة وغير مضغوطة عسكرياً مع إعلان غزة ساحة قتال ثانوية، رغم استمرار المقاومة والاشتباكات فيها، وانشغال العالم بمأساة لبنان واحتمال اندلاع حرب إقليمية أو صراع إقليمي واسع بين إسرائيل وإيران.
في الآخير، وفي الصورة العامة، لا بد من الانتباه كذلك إلى عجز وضعف الطبقة السياسية الفلسطينية وفشلها في قراءة المشهد في غزة، بما في ذلك الخطة -المؤامرة الإسرائيلية- التي باتت بمثابة سر معلن، خصوصاً مع تعثّر حوارات القاهرة الأخيرة بين فتح وحماس، وعدم التوافق على رؤية محددة لليوم التالي لإفشال الخطط الإسرائيلية، أو تخفيف معاناة الناس والنازحين ومساعدتهم ولو عبر خطوة متواضعة تتمثل بتشكيل ما تعرف بلجنة الإسناد المجتمعي لإدارة غزة بعد الحرب، وحتى فوراً، في المناطق غير الخاضعة مباشرة لسيطرة الاحتلال العسكرية في الوسط وخان يونس، على أن تُعتبر خطوة مهمة باتجاه التوافق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإعادة بناء منظمة التحرير، وبلورة استراتيجية موحدة لإنهاء حرب غزة في أقرب مدى زمني ممكن، وإدارة الصراع مع الاحتلال بشكل عام بكل الوسائل والأساليب الممكنة في الساحات المحلية والاقليمية والدولية.