الفرات والجزيرة.. صراع طاحن لملء الفراغ الأميركي
تُظهر التطورات التي أعقبت قرار سحب القوات الأميركية من الشمال الشرقي في سوريا، أن منطقة عشائر الفرات والجزيرة السورية تحولت إلى ساحة لصراع القوى المحلية والإقليمية المتنازعة على ملء الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب. تنازع "الفيلة" هذا جعل من عشائر المنطقة أدوات لتهديد الخصوم، وتوجيه الرسائل السياسية وميداناً خالياً تفرض به هذه القوى وترسم عليه أجنداتها وتصوراتها.
وقد شهدت الرقة توالي ثلاث صيغ من السيطرة شديدة العنف والتباين خلال أقل من ثماني سنوات. تبدلات حملت معها في كل مرة اختلافات تنظيمية وأيديولوجية، لكنها اشتركت جميعاً في أمر واحد؛ موقفها من أهل المحافظة. هذا الموقف ظهر في صورة العجز عن بناء رؤية وشراكة سياسيتين مستديمتين مع السكان، وهذا ميز حالة طيف الفصائل المُستظلة بمظلة "الجيش السوري الحر" بُعيد تحرير مدينة الرقة في ربيع العام 2013، أو عدم الرغبة في خلق هذه الرؤية والشراكة الذي ميز سياسيات تنظيم "داعش" منذ مطلع العام 2014، والمليشيات الكردية منذ خريف العام 2017. "داعش" و"قسد" تصرفتا فعلياً بوصفهما قوتي احتلال، لكن من دون التزامات قانونية أو أخلاقية من جانبهما تجاه السكان المحليين.
هذه التبدلات انعكست بدورها على حركة السكان على الأرض، هجرةً ونزوحاً وبقاءً، فرسمت خريطة جديدة لتوزع سكان المحافظة، يمكن قراءتها في العمق بوصفها خريطة ولاءات سياسية أو تبعية اقتصادية فرضتها الوقائع المستجدة. فعلى إثر سيطرة فصائل من الجيش الحر والمجموعات الإسلامية على المدينة في مطلع آذار 2013، نزح عشرات الآلاف من السكان إلى مناطق سيطرة النظام، وهؤلاء إما موالون للنظام أو من الموظفين الذين التحقوا بمقرات دوائرهم ومؤسساتهم التي أُعيد افتتاحها في دمشق أو اللاذقية أو حماة. وفي المقابل، فقد نزحت أعداد أكبر من سكان المحافظة إلى تركيا أو إلى أرياف المحافظة بعد بدء قصف النظام للمدينة بالطيران وصواريخ السكود خلال الأسابيع التالية لتحرير المدينة من قبضته. وهؤلاء كانوا ممن نزحوا مؤقتاً إلى حين توقف القصف ومن المعارضين الذين لا يستطيعون اللجوء إلى مناطق النظام.
لكن موجة ثالثة من النزوح بدأت بعد إحكام تنظيم "داعش" قبضته على المحافظة مطلع العام 2014، وهذه شملت كل معارضي التنظيم وكل من بقى حتى ذلك الوقت تقريباً من موظفين ارتبطت مصادر رزقهم بالنظام. إلّا أن موجة النزوح الأكبر كانت مع بدء المرحلة الأخيرة من الحملة العسكرية للتحالف الدولي والمليشيات الكردية على المدينة في خريف العام 2017، حيث خلت المدينة تقريباً من سكانها، الذين بدأ قسم منهم بالعودة التدريجية بعدها بأسابيع.
خلال هذه التغيرات السريعة والمتتابعة، خسر مجتمع المحافظة جميع ناشطيه السياسيين المعارضين تقريباً، خاصة الشبان منهم، بسبب الهجرة أو اليأس أو الالتحاق بالمجموعات المقاتلة، فلم يبق على الأرض سوى وجهاء وشيوخ العشائر بوصفهم شريكاً سياسياً مُحتملاً للقوى المتنازعة. هذا الواقع المتحرك ساهم، بأوجه متعددة، في خلق المزيد من الوجهاء اللازمين للإيحاء بوجود تمثيل اجتماعي للسكان. بالإضافة إلى أن هذه القوى الفاعلة كافة؛ من الأميركيين والنظام والإيرانيين والأتراك، تُدرك طبيعة هذه المناطق بوصفها مناطق عشائرية، وتالياً، فإنها تفضل التعامل معها من خلال هؤلاء الشيوخ والوجهاء، بغض النظر عن حقيقة هذا التمثيل وجديته.
لذلك حرص كل طرف من هذه الأطراف على تحشيد جزء من هؤلاء لصالح رؤيته ومشروعه، فظهرت ثلاث كتل رئيسة يدين كل منها بالولاء لطرف من الأطراف المحلية ومن ورائها من قوى إقليمية ودولية. فظهر تجمعان لوجهاء العشائر في كل من أورفا في تركيا، حيث عُقد "مؤتمر عشائر الجزيرة" واعزاز في ريف حلب الشمالي، حيث انعقد "المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية المعارضة"، بوصفهما غطائين سياسيين واجتماعيين لعملية عسكرية تركية مرتقبة بالتعاون مع فصائل من الجيش الحر من أبناء الرقة وحلب والحسكة وديرالزور. بينما درجت سياسة المليشيات الكردية على تصنيع شيوخ جدد طوال الفترة الماضية، مثل محمد نور الذيب عن عشيرة البريج ومحمد تركي السوعان عن عشيرة السبخة، نظراً لغياب معظم الوجهاء المحليين التقليديين عن الساحة واستنكاف من بقي منهم عن التعامل معها.
أما النظام، فقد بدأ يعود خلال الفترة الماضية من خلال تواصله مع وجهاء مناطق الريف الغربي والجنوبي للمحافظة وعبر فيديوهات تكاد تكون يومية يظهر فيها هؤلاء الوجهاء، بصحبة عدد من أبناء عشائرهم لتوجيه رسائل سياسية إلى الأطراف الأخرى؛ الأكراد والأميركيون والأتراك. ولعل الشيخ فيصل إبراهيم السيباط، شيخ عشيرة الجعابات أبرز مثال على هؤلاء.
الخطاب السياسي لكتل الوجهاء الثلاثة هذه يكاد يكون متطابقاً في منطلقاته الجوهرية، وإن كان متبايناً في مفرداته وفي تصوره للعدو أو الطرف الذي يتوجه إليه: فالشيوخ المرتبطون بالجيش الحر وتركيا يتحدثون عن "التحرير" و"المليشيات الانفصالية" و"الثورة". و"شيوخ قسد"، حسب التسمية الدارجة في الرقة للوجهاء المرتبطين بالمليشيات الكردية، يتحدثون عن "الإرهاب" و"اللامركزية"، بعدما كانوا يتحدثون عن "الفيدرالية" في ما سبق، و"أخوة الشعوب". أما الوجهاء الذين يحركهم النظام فيكررون خطاب النظام المعهود منذ انطلاقة الثورة في العام 2011: الولاء لـ"القائد" و"الجيش" و"شعب واحد" و"قيادة واحدة" و"أرض واحدة". وكل مجموعة من هذه المجموعات الثلاث تتوعد الأخرين، بالاتكاء على مصادر قوة مفترضة بالراعي الذي يحركها.
الجوهري في خطاب وجهاء الرقة هؤلاء، وفي عموم المناطق التي انحسرت عنها سيطرة تنظيم "داعش" خلال السنوات الأخيرة، هو التزامها بالرؤية والسياسة المرحلية لراعيها الخارجي أو المحلي، تجاه الأطراف الأخرى، كما تخلو من أي مضمون سياسي أو اجتماعي ملموس تجاه المجتمعات المحلية. هذا الخطاب لا يرشحها في أحسن الأحوال لأكثر من العمل كأدوات مرحلية أيضاً تنفع ما دام المجتمع على هذه الحال من السيولة والتفتت، ما يضعها عملياً في خانة المستبدين والمحتلين وفي مواجهة القسم الأكبر من مجتمعاتها.