عودة النظام إلى الرقة: مسألة وقت؟
تغير المشهد العام في الرقة كلياً خلال الشهور العشرة الماضية، فقد انتقلت المدينة من قبضة تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى قبضة مليشيا "قوات سوريا الديموقراطية" المدعومة من "التحالف الدولي" في تشرين الأول/أكتوبر 2017. انتقال لم يُغيّر السيطرة العسكرية-الأمنية المباشرة فحسب، بل تضمن أيضاً أوضاعاً وتوجهات واحتمالات سياسية مختلفة ومتعارضة في معظم الأحوال، رغم تشابه موقفي التنظيمين من السكان المحليين وتطابق سلوكهما وآليات عملهما اليومية إزاء هؤلاء السكان.
تنظيم "داعش" سعى إلى فرض دوغما "الخلافة الإسلامية" بمضامينها المفوتة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، ما انتهى بكارثة حلت بمجموع سكان المناطق التي سيطر عليها بين عامي 2014 و2018، في حين أن مليشيا "قسد" تعاود الكرة بفرض أيديولوجيا قومية كردية تغلفها بفلسفة حول "أخوة الشعوب" وتنظيرات اجتماعية-اقتصادية ماركسية طرحها مؤسس حزب "العمال الكردستاني" التركي عبدالله أوجلان لأوضاع الأكراد في تركيا في ثمانينيات القرن الماضي.
لكن سرعان ما امتحنت حركة التاريخ المتسارعة في المنطقة وحقائق الديموغرافيا مزاعم الطرفين ووضعتهما على التوالي أمام محك الواقع. وإذ يكاد تنظيم "الدولة الإسلامية" يتبخر، ويتحول إلى مجموعات من الذئاب المنفردة بفعل الحرب القائمة عليه، فإن مليشيا "قسد" شهدت خلال أقل من عام واحد تغييرات كبيرة في توجهاتها الأيديولوجية والسياسية. فبعد تخليها عن مظاهر عبادة الشخص ونزع صور أوجلان من مناطق سيطرتها، زادت مشاركة السكان المحليين في القوى الأمنية التابعة لها وخلقها لحزب "سوريا المستقبل"، الذي يُرجح أن يكون بديلاً مستقبلياً لحزب "الاتحاد الديموقراطي" فرع "العمال الكردستاني" في سوريا، وتوسيعاً له بإدخال عناصر غير كردية فيه. وبعد القضاء على مجمل المجموعات العربية المقاتلة التي عملت تحت مظلة "قسد" أثناء الحرب على "داعش"، وآخرها "لواء ثوار الرقة"، فإن "قسد"، وخلفها "الاتحاد الديموقراطي"، باتت الطرف الوحيد المؤهل موضوعياً للدخول في أي مسار تفاوضي حول الحل السياسي في سوريا عن منطقة الجزيرة السورية، باستثناء مدينة ديرالزور وأريافها الجنوبية والغربية والشرقية وأرياف الرقة الجنوبية.
وبالفعل، فقد زار وفد "الإدارة الذاتية" دمشق أواخر تموز/يوليو لأول مرة بصفته وفداً "رسمياً... للوصول إلى حل بشأن شمال سوريا"، فيما سبقته لقاءات عديدة لم تأخذ هذه الصفة بين مسؤولي الحزب ومسؤولي النظام. ويبدو أن مطلب "الإدارة الذاتية" المتمثل جوهرياً باعتراف النظام بها في مناطق سيطرتها، لم يؤخذ من قبل النظام على محمل الجد، إلى حد صدور أوامر من الأجهزته الأمنية باعتقال أعضاء الوفد الذي سارع الروس على الفور إلى إخراجه من دمشق تجنباً لحدوث صدام ليس في أوانه.
هذه الواقعة تأتي على خلفية تهديد بشار الأسد باللجوء إلى "تحرير" مناطق سيطرة "قسد" في حال لم تنجح "المفاوضات" معها، كما تتماشى مع تعميم أصدرته السلطات الإدارية في النظام يُلزم الموظفين بالتواجد على رأس عملهم في مناطق سيطرته في ريف الرقة الجنوبي مع حلول الأول من تموز/يوليو الماضي، إضافة إلى تشكيل عدد من اللجان الفرعية بين الطرفين تم الاتفاق عليها في اجتماعات جرت في مدينة الطبقة أفضى عمل إحداها إلى تسليم رفات عدد من جنود "اللواء 93" الذين قتلهم "داعش" في العام 2014 ودُفنوا في بلدة عين عيسى في الريف الشمالي لمحافظة الرقة. ويظهر أن الهدف المُعلن من هذه اللجان هو إعادة تفعيل "المؤسسات الخدمية"، وبموازاة ذلك يعود بشكل متدرج وهادئ العشرات ممَنْ يوصفون محلياً بـ"شبيحة النظام" إلى الرقة، ما يساهم في توسيع القاعدة الاجتماعية للنظام في الرقة. ويؤشر ذلك إلى وجود خطة لعودة النظام بشكل متدرج وسلس إلى الرقة، على الأقل، وإن بصورة مُقدّم خدمات. بينما تبقى سيطرة "قسد" قائمة في الملفين الأمني والسياسي بدعم من "التحالف الدولي".
ويُرجح أيضاً أن تكون خطوات التقارب بين النظام و"قسد" في الرقة مطلوبة أو مرغوبة من قبل الأميركيين والأوربيين تجنباً لصدام بين الطرفين يمكن أن يُعقّد المشهد في المنطقة ويُتيح لـ"داعش" من جهة والأتراك من جهة ثانية فرصة إيجاد هوامش أوسع للتحرك أمنياً أو سياسياً فيها.
وإن صح مثل هذا التصور، فإن عودة النظام إلى مناطق الجزيرة السورية تصبح مسألة وقت. وستتحكم عوامل أساسية بطول المدة والصيغة النهائية لعودة النظام، التي تبدو مؤكدة بحسب المؤشرات الحالية؛ كضرورة ضمان دور مستقبلي لحليف "التحالف الدولي" حزب "الاتحاد الديموقراطي" الكردي وواجهاته وملحقاته العسكرية والأمنية والسياسية. وكذلك ضمان عدم عودة "داعش" أو أي صورة أخرى منه. وليس أقل منهما التأكد من امتلاك النظام السوري ما يكفي من القوى البشرية، سواء بمفرده أو بمشاركة "قسد"، لإعادة بسط سيطرته على كامل المنطقة. هذا عدا عن الحاجة إلى وضع حاجز بين مناطق سيطرة إيران على جانبي الحدود بين سوريا والعراق.
ويبقى أخيراً أن المجتمعات المحلية، سواء في الرقة أم في مناطق سيطرة "قسد" الأخرى، خرجت مرة أخرى من دائرة الفعل والرأي السياسيين. فقد نجحت "قسد" حتى الآن في تسوية المجتمعات المحلية المنهكة بفعل القتال والتهجير وتحويلها إلى أرضية خصبة للقبول بأي تسوية تُبقي الناس في ما تبقى من بيوتهم، خاصة بعد إغلاقها فعلياً باب العودة أمام عودة المُهجرين ما لم ينخرطوا أو يقبلوا بالحد الأدنى أجندتها السياسية في مناطقهم. الأمر الذي يحول دون عودة ناشطي الثورة وجمهورها بالكامل.
تنظيم "داعش" سعى إلى فرض دوغما "الخلافة الإسلامية" بمضامينها المفوتة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، ما انتهى بكارثة حلت بمجموع سكان المناطق التي سيطر عليها بين عامي 2014 و2018، في حين أن مليشيا "قسد" تعاود الكرة بفرض أيديولوجيا قومية كردية تغلفها بفلسفة حول "أخوة الشعوب" وتنظيرات اجتماعية-اقتصادية ماركسية طرحها مؤسس حزب "العمال الكردستاني" التركي عبدالله أوجلان لأوضاع الأكراد في تركيا في ثمانينيات القرن الماضي.
لكن سرعان ما امتحنت حركة التاريخ المتسارعة في المنطقة وحقائق الديموغرافيا مزاعم الطرفين ووضعتهما على التوالي أمام محك الواقع. وإذ يكاد تنظيم "الدولة الإسلامية" يتبخر، ويتحول إلى مجموعات من الذئاب المنفردة بفعل الحرب القائمة عليه، فإن مليشيا "قسد" شهدت خلال أقل من عام واحد تغييرات كبيرة في توجهاتها الأيديولوجية والسياسية. فبعد تخليها عن مظاهر عبادة الشخص ونزع صور أوجلان من مناطق سيطرتها، زادت مشاركة السكان المحليين في القوى الأمنية التابعة لها وخلقها لحزب "سوريا المستقبل"، الذي يُرجح أن يكون بديلاً مستقبلياً لحزب "الاتحاد الديموقراطي" فرع "العمال الكردستاني" في سوريا، وتوسيعاً له بإدخال عناصر غير كردية فيه. وبعد القضاء على مجمل المجموعات العربية المقاتلة التي عملت تحت مظلة "قسد" أثناء الحرب على "داعش"، وآخرها "لواء ثوار الرقة"، فإن "قسد"، وخلفها "الاتحاد الديموقراطي"، باتت الطرف الوحيد المؤهل موضوعياً للدخول في أي مسار تفاوضي حول الحل السياسي في سوريا عن منطقة الجزيرة السورية، باستثناء مدينة ديرالزور وأريافها الجنوبية والغربية والشرقية وأرياف الرقة الجنوبية.
وبالفعل، فقد زار وفد "الإدارة الذاتية" دمشق أواخر تموز/يوليو لأول مرة بصفته وفداً "رسمياً... للوصول إلى حل بشأن شمال سوريا"، فيما سبقته لقاءات عديدة لم تأخذ هذه الصفة بين مسؤولي الحزب ومسؤولي النظام. ويبدو أن مطلب "الإدارة الذاتية" المتمثل جوهرياً باعتراف النظام بها في مناطق سيطرتها، لم يؤخذ من قبل النظام على محمل الجد، إلى حد صدور أوامر من الأجهزته الأمنية باعتقال أعضاء الوفد الذي سارع الروس على الفور إلى إخراجه من دمشق تجنباً لحدوث صدام ليس في أوانه.
هذه الواقعة تأتي على خلفية تهديد بشار الأسد باللجوء إلى "تحرير" مناطق سيطرة "قسد" في حال لم تنجح "المفاوضات" معها، كما تتماشى مع تعميم أصدرته السلطات الإدارية في النظام يُلزم الموظفين بالتواجد على رأس عملهم في مناطق سيطرته في ريف الرقة الجنوبي مع حلول الأول من تموز/يوليو الماضي، إضافة إلى تشكيل عدد من اللجان الفرعية بين الطرفين تم الاتفاق عليها في اجتماعات جرت في مدينة الطبقة أفضى عمل إحداها إلى تسليم رفات عدد من جنود "اللواء 93" الذين قتلهم "داعش" في العام 2014 ودُفنوا في بلدة عين عيسى في الريف الشمالي لمحافظة الرقة. ويظهر أن الهدف المُعلن من هذه اللجان هو إعادة تفعيل "المؤسسات الخدمية"، وبموازاة ذلك يعود بشكل متدرج وهادئ العشرات ممَنْ يوصفون محلياً بـ"شبيحة النظام" إلى الرقة، ما يساهم في توسيع القاعدة الاجتماعية للنظام في الرقة. ويؤشر ذلك إلى وجود خطة لعودة النظام بشكل متدرج وسلس إلى الرقة، على الأقل، وإن بصورة مُقدّم خدمات. بينما تبقى سيطرة "قسد" قائمة في الملفين الأمني والسياسي بدعم من "التحالف الدولي".
ويُرجح أيضاً أن تكون خطوات التقارب بين النظام و"قسد" في الرقة مطلوبة أو مرغوبة من قبل الأميركيين والأوربيين تجنباً لصدام بين الطرفين يمكن أن يُعقّد المشهد في المنطقة ويُتيح لـ"داعش" من جهة والأتراك من جهة ثانية فرصة إيجاد هوامش أوسع للتحرك أمنياً أو سياسياً فيها.
وإن صح مثل هذا التصور، فإن عودة النظام إلى مناطق الجزيرة السورية تصبح مسألة وقت. وستتحكم عوامل أساسية بطول المدة والصيغة النهائية لعودة النظام، التي تبدو مؤكدة بحسب المؤشرات الحالية؛ كضرورة ضمان دور مستقبلي لحليف "التحالف الدولي" حزب "الاتحاد الديموقراطي" الكردي وواجهاته وملحقاته العسكرية والأمنية والسياسية. وكذلك ضمان عدم عودة "داعش" أو أي صورة أخرى منه. وليس أقل منهما التأكد من امتلاك النظام السوري ما يكفي من القوى البشرية، سواء بمفرده أو بمشاركة "قسد"، لإعادة بسط سيطرته على كامل المنطقة. هذا عدا عن الحاجة إلى وضع حاجز بين مناطق سيطرة إيران على جانبي الحدود بين سوريا والعراق.
ويبقى أخيراً أن المجتمعات المحلية، سواء في الرقة أم في مناطق سيطرة "قسد" الأخرى، خرجت مرة أخرى من دائرة الفعل والرأي السياسيين. فقد نجحت "قسد" حتى الآن في تسوية المجتمعات المحلية المنهكة بفعل القتال والتهجير وتحويلها إلى أرضية خصبة للقبول بأي تسوية تُبقي الناس في ما تبقى من بيوتهم، خاصة بعد إغلاقها فعلياً باب العودة أمام عودة المُهجرين ما لم ينخرطوا أو يقبلوا بالحد الأدنى أجندتها السياسية في مناطقهم. الأمر الذي يحول دون عودة ناشطي الثورة وجمهورها بالكامل.