أميركا وميليشياتها
يبدو انه اصبح لدى الولايات المتحدة لائحتا تنظيمات ارهابية، واحدة معلنة، واخرى مضمرة، وان واشنطن لا تلتزم بـ"ارهابية" من تصنفهم ارهابيين، فيما هي تتفادى التعاون مع من لم تضعهم في خانة الارهاب، ما يخلق حالة استنسابية تربك الحلفاء، وتزيد في التخبط الذي يطال السياسة الخارجية الاميركية منذ اصبح باراك أوباما رئيساً في العام ٢٠٠٨.
في إفطار الاثنين، يستضيف وزير الخارجية جون كيري، في منطقة جورجتاون في منزله الخاص، الذي كان يملكه السناتور الراحل جون كينيدي قبل ان يصبح رئيساً، ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. وعلى الرغم من ان زيارة الاخير-التي تستمر حتى يوم الخميس ويلتقي فيها أوباما في البيت الابيض- تأتي تحت عنوان تنفيذ "رؤية ٢٠٣٠"، وهي خطة اقتصادية سبق ان اعلن عنها الامير، الا ان الحوار بين كيري وضيفه السعودي سيتطرق، من دون شك، الى موضوع سوريا.
وتعمل السياسة الخارجية السعودية، منذ اشهر، على تسويق حركة "أحرار الشام الإسلامية" في واشنطن. لهذا السبب، نشر رئيس المكتب السياسي في "الأحرار" لبيب النحاس مقالاً في صحيفة "واشنطن بوست". ثم زار العاصمة الاميركية قبل اسابيع.
لا يخفى على المتابعين أن الحيز الاكبر من الجدال الاميركي حول سياسة واشنطن في سوريا يتمحور حول هوية الفصائل المسلحة التي تسمح الولايات المتحدة لنفسها، أو لا تسمح، التواصل معها، ودعمها بالمال، او السلاح، او بالاثنين معاً، وتقديم غطاء سياسي وديبلوماسي لها في المحافل الدولية.
تقليدياً، لم تر الولايات المتحدة مانعا من التعامل مع المجموعات المسلحة من غير الحكومات، وعززت الحرب الباردة من هذا المفهوم، الذي بلغ ذروته مع قيام واشنطن بتقديم الدعم العسكري والمالي الواسع للمجاهدين في افغانستان في الثمانينات اثناء قتالهم في مواجهة السوفيات.
لكن منذ تمرد زعيم تنظيم القاعدة الراحل اسامة بن لادن، بسبب استعانة الخليج بالقوات الاميركية لاخراج جيش صدام حسين من الكويت في العام ١٩٩١، تحول المجاهد المدلل للاميركيين الى فتى مشاغب، فإرهابي مطلوب، ونشب عداء بين أميركا والقاعدة أدى الى سلسلة من الهجمات في عدن ونيروبي ودار السلام ونيويورك وواشنطن. ردت أميركا باجتياح افغانستان، واصطياد بن لادن، وتحريم التعامل مع المجموعات المسلحة من غير الحكومات.
ثم أجبرت حرب العراق واشنطن على التعاطي مع المجموعات المسلحة لتثبيت الوضع فيه، فاستعانت أميركا بمقاتلي العشائر السنية غرب البلاد، التي شكلت "قوات الصحوات"، وانقضّت، بدعم عسكري ولوجستي ومالي اميركي، على القاعدة، واخرجتها من البلاد.
على ان خطأ أوباما الاكبر كان في عدم فهمه لكيفية التوصل لتثبيت الوضع العراقي، ففتح باب حظيرة سنة العراق لذئاب شيعة ايران، وانهار الوضع مجددا، وعندما حاولت اميركا اعادة وصل ما انقطع مع "الصحوات" لضرب خليفة القاعدة داعش، كانت الثقة بين العشائر والاميركيين تلاشت كلياً.
ثم نجحت اميركا في اعادة تفعيل تحالفها مع فصائل مسلحة كردية، واستندت اليها في إخراج "داعش" من عين العرب/كوباني، ومازالت تستند اليها في قتال "داعش" المستمر غرب العراق وشرق سوريا، وهي تجربة يبدو ان الولايات المتحدة تسعى لتكرارها، وان بخجل، مع مجموعات سورية وعراقية اخرى.
والواضح ان واشنطن أبقت عددا من المجموعات السورية خارج لائحتها الرسمية للتنظيمات الارهابية بهدف ابقاء الباب مفتوحا للتعاون مستقبلا. ويبدو ان "احرار الشام" اقتربت من نيل الموافقة الاميركية، فيما لا يزال "جيش الفتح" متأرجحا بسبب تحالفه مع "جبهة النصرة". حتى هذه الاخيرة، يبدو ان عواصم غربية بدأت تدرس تغيير موقفها منها، بعدما انتزع داعش لقب ارهابي العالم، ما يفتح باب التعامل مع "جناح سياسي" لـ"النصرة"، شبيه بجناح حزب الله السياسي الذي لا تمانع اوروبا من التعامل معه، وكذلك اميركا، وان بشكل غير مباشر.
الموقف الاميركي تجاه ميليشيات سوريا والعراق ولبنان وايران مازال يتطور. وحتى يكتمل، ستستود الفوضى واللاعدالة في طريقة تعامل واشنطن مع الفصائل المسلحة في عموم الشرق الاوسط.